بالأمس شُحِنَ وسائل التّواصل الاجتماعي بمسألة القرار الذي صدر من عمادة الكليّة التطبيقيّة بنزوى بشأن تحديد لباس المرأة ومنه العباءة بطبيعة الحال، فكانت انتفاضة بين مؤيد ومعارض.
وشخصيا لست ضد أي انتفاضة كانت فهي حالة صحيّة، ولكن هناك أولويات كانت أولى بالانتفاضة من قضية العباءة، ولكن على العموم هي حالة صحيّة في الشّراك المجتمعي لقرارات ومؤسسات الدّولة.
بيد أنّ الحالة غير الصّحية بحال من الأحوال، والتي لا تخدم المجتمع أبدا، ألا هو خلق صراع تصنيفي بين فئتين: فئة المتدينين، وفئة المثقفين، وقد غرّدت قبل يومين في تويتر والفيس عن عدم اقتناعي بهذا التّصنيف، فالمثقف متدين، والمتدين مثقف في الجملة، إلا إذا قصد بالتّدين الشكل، إلا أنّ التّدين أعم من الشكل، والثّقافة أوسع من الحداثة والرواية والأدب!!!
ثمّ أنّ طرح القضايا المجتمعيّة على هذا الأساس من التّصنيف لا يخدم القضيّة أبدا بحال من الأحوال، وتصل القضيّة إلى نقطة مسدودة لا يمكن تمييزها أصلا لضبابيتها، فيصبح كلّ ما يقولوه أيّ صنف مذموما عند الصّنف الآخر، ونحن نتأمل في مناقشة وغربلة قضايا أكبر في الوطن، وهذا التّصنيف أكبر خدمة يرجع بالوطن إلى الخلف قرونا، ويخدم فئات في الوطن مستغلة هذه السّذاجة – وليعذرني الأخوة القراء على هذه العبارة – لأجل مصالحهم الذّاتيّة والشّخصيّة.
والمشكلة هنا تغيب القاعدة المشتركة بين الطّرفين، ويغيب المبدأ الجامع بينهما، فمثلا لو قامت عمادة الكليّة وقررت ضرورة خلع العباءة لتكلم البعض بأنه تقدم في الحريات واحترام للمرأة، بينما الفريق الآخر يعتبره فجورا وانحلالا، وطريق لإفساد المرأة في المجتمع، والعكس صحيح لو ألزم لبس العباءة لقال هذا تخلف ودعشنة ورجعية، والثّاني تطبيق للشّريعة وحفظ للأعراض، ولكن ما هي النّتيجة من هذا الصّراع؟!!!
لم نرَ في الحقيقة في هذه التّظاهرة نقاشا علميا منهجيا ينطلق من مبدأ المجتمع إلا لماما هنا وهناك خاصة في الرّدود.
يتداخل عندنا هنا خطوط وأكبرها الحرية واللباس، وقضية العهر والزّنا والفجور أو التّقدم والمدنية والتّخلص من التّزمت والرّجعيّة والدّعشنة.
نأتِ بداية إلى اللّباس، فمما اتفق عليه أنّ اللّباس عرفي، والله تعالى جعل العرف معتبرا {وأمر بالعرف}، ففي عمان ما يتعارف عليه قد يكون مذموما في مجتمعات أخرى، والعكس صحيح، فلا أتصور عمانيا يستطيع أن يخرج في محفل وهو يلبس لباس أهل السّنغال، وإلا اعتبر متشبها بالنّساء، كما أنّه لا يمكن أن تلبس المرأة عندنا لباس الاندونيسيات وهي ذاهبة إلى الصّلاة وإلا اعتبرت متبرجة!!!
وهكذا الحال على مستوى التّأريخ، فتصوروا خطيب جمعة يصعد المنبر عندنا بإزار عاقصا شعره بعد تطويله له، فقد تتهمه بالميوعة، إذ كيف يعقص شعره ويطوله كالنّساء، مع أنه عادة العرب في العهد الأول من نزول القرآن وبعثة النّبي عليه الصّلاة والسّلام.
أو تصوروا المرأة اليوم تخرج ولباسها إلى أنصاف ساقيها، ملونة كاشفة عن قدميها، فتتهم بالتّبرج مع أنّه لباس العديد من أهل عمان قبل فترة بسيطة من الزّمن.
أنا لا أطالب الآن بهذا ولا ذاك، وإنما نراعي أعراف بلادنا ومجتمعاتنا، لأنّ العرف نسبي، وهو متطور ومتغير، فما نلبسه اليوم قد لا يلبسه الجيل القادم، وهكذا دواليك.
الشّرائع أمرت بمراعاة الأعراف، واعتبرت اللّباس زينة للجسم، وتحفظ به العورات والسوءات، وأمرت المرة بعدم التبرج وبالعديد من الأدبيات كما في سورة النّور، ويرجع تحديد اللّباس إلى أعراف المجتمعات، والقاعدة تقول العرف معتبر.
أما قضية الحرية فهي مبدأ قرآني وإنساني رفيع، لا ينازع في قيمتها، وإنزالها يحدث به تفسيرات تحت ظلّ قوانين يرتضيها النّاس، على أن تكون هذه القوانين مشتركة ومراعية للمجموع، فقوانين الطرق معتبرة وليس من الحرية تجاوزها مثلا.
كذلك إلزام الدولة للنّاس في العمل باللّباس الرّسميّ في الأصل مخالفا لأصل حريات النّاس المطلقة، ولكن لما ارتضوه تقنينا أصبح القانون معتبرا، وللمرء حق النّقد لا مخالفة القانون!
وعليه لا يمكن أن نجعل المتقيّد باللّباس الرّسميّ رجعيّا وعكسه منفتحا، لأنّ هذه نسبة ظنيّة خاضعة عقلا لأعراف النّاس وعاداتهم، والعادات تتطور بالنّقد والتّقنين المستمر، لا بالصّراع التّصنيفيّ حولها.
والآن ما أصدرته عمادة الكليّة من تقنين بالطّبع له أسبابه ومسبباته، وهي أعلم بما في داخلها، وما يحدث بين الطّلاب، والمصلحة العامة من ذلك، ولكن لا يعني بحال عدم أحقية نقده، كما أنّه من أبجديات النّقد احترام القرار ذاته.
ولا علاقة بين العباءة وعدمها بالزّنا والفجور، فالمرأة التي لا تلبس ذلك ليست عاهرة زانية، ومن المعلوم أنّ أكبر معدلات التّحرش في العالم هي في العالم العربي، وعشرات المنقبات مثلا في بعض الدّول القريبة يعانين من ذلك، بل في بلادنا.
والعلاقة بين الجنسين اليوم لا يمنعه صف الكليّة أو الجامعة، فالمرأة ولو كانت منقبة أو لا، والرجل ولو كان ملتحيا أو لا، في غرفته بل وفي سيارته وخلوته يمكنه أن يتواصل مع عشرات النساء بالهاتف والصور…
فلن يمنع لبس العباءة التّواصل، ولكن مع هذا لكل جهة احترامها فيما تراه أصلح في ذلك الوضع.
وكما قلتُ في البداية هذه الانتفاضة ليتها كانت انتفاضة في الاختراع والإبداع والأبحاث، وتنمية الطّلاب، وتحفيزهم ودعمهم وتشجيعهم في كسب المعارف والعلوم وبراءة الاختراع، لا في انتفاضة العباءة!!!
قضية الأخلاق والقيم أكبر من أن تحصر في الجامعة أو الكلية، وهي متشابكة جدا، وزاد النقاش حولها مع ظهور وسائل التواصل والشبكة العالمية ونحن اليوم بحاجة إلى أبحاث تربوية شاملة، يتقدم لها التربويون والباحثون في علم الاجتماع يعقبها تقنين بما يراه الجميع يحقق المصلحة العامة.
أما التّطبيق الشّخصيّ فهذه حرية الفرد، ومسؤول وحده عن ذلك في الدنيا والآخرة، والله أعطى النّاس حرية في الإيمان به، فكيف بما هو دونه.
أمّا القوانين فيما تراه جهة أو أمة فهو محترم، وتقيّدها واجب، مع مراعاة النّاس وأعرافهم وتوجهاتهم، وتكون معتدلة فيما يراه العقلاء والمقننون.
ختاما هناك قضايا أكبر ينبغي الاشتغال بها، وتنميتها في العقل المجتمعي اليوم كالقسط والعدالة والشّراك المدني وغيرها من القضايا الغائبة في ظل التّصنيف الذي يرجع بسببه المجتمع خائبا وهو حسير.
فيسبوك 1435هـ/ 2015م