المقالات الدينية

خطبة الجمعة والإلحاد

قبل الدّخول في الموضوع لابدّ من نقطتين مهمتين: الأولى احترام من وضع الخطبة والجهة القائمة بذلك، إلا أنّ نقد الخطبة حالة صحيّة، وليس إنكارا لوحي إلهي، وهم اجتهدوا ولهم الأجر لاجتهادهم، وقد يكون اجتهادهم صوابا، فلهم الأجران بإذن الله تعالى، وهذا من باب المجاز بطبيعة الحال إن صح ما روي فيه.

والنّقطة الثّانيّة: قضية الإلحاد قضيّة قديمة، ومفهوم الإلحاد مفهوم واسع، استخدم مذهبيّا في فترة من الفترات، فالصّفاتيون من أهل الحديث مثلا يصفون المأولة ملحدة وتارة يصفونهم بالمعطلة، فمثلا أبو بكر محمد بن فورك ت 406هـ في كتابه بيان مشكل الأحاديث يقول في صفحة 51 عن الخوارج [الإباضيّة] والمعتزلة والشّيعة: [فلم يبق إلا أّن هؤلاء المبتدعة إنّما تقصد بهذا التّهجين الكشف عمّا تسره من العقائد الرّديئة في هذه الطّائفة الطّاهرة – أي أهل الحديث -الّتي هي بالحق ظاهرة سبيل اعتراض الملحدة على جملة أهل الشّريعة]، وذكر سبب إلحادهم إنكارهم للسّنة – أي الرّواية -، حيث يقول في الصّفحة نفسها: [وهذه المقدّمة تكشف لك عن جهالة المبتدعة في اعتراضهم أهل النّقل من أصحابنا في نقل مثل هذه الأخبار، وتوضح لك أنّ قوة هذه المقالة تجرّ القائل به، والقائد له إلى إبطال الكتاب بمثل ما بطل به السّنة]، إلا أنّ مصطلح الألحاد أصبح يستخدم اليوم بكثرة، دون تقعيد وتأصيل للمسألة.

ولنأت الآن إلى الخطبة ففي البداية بدأت بقضيّة العقيدة، وليتها استخدمت مصطلح التّوحيد والوحدانيّة؛ لأنّ قضيّة العقيدة قضيّة كلاميّة فلسفيّة واسعة، يدخل فيها قضايا جدليّة في المذهب الواحد، فضلا عن المدارس الإسلاميّة، والمناهج البشريّة في الأديان والملل والنّحل، ولأنّ القضيّة المحورية هنا تتعلّق بالذّات الإلهيّة ولهذا كان التّوحيد وإثبات وجود الله ووحدانيته والأحديّة هي الأصل في هذا البحث.

ثمّ نجد خطاب الخطبة متعاليا جدا، فمن البداية تبعا: [الضّلالة، الأفكار الشّاذة، خلع أثواب الإيمان، ليخلع ربقة التّوحيد من عنقه، ينغمس في بحار الملذات والشّهوات، المعتقدات الفاسدة، فكره العقيم، إلحاده السّقيم، ليكفر بربه، أنكى خطرهم على مجتمعهم، ذوي الضّلالات، يخوضون في آيات الله، أهل الضّلال والإفساد].

وهذي نماذج بسيطة في أربع صفحات فقط، وهي بحق لا تخرج عن الخطب السّلفيّة المقدّمة لمنهج الاتهام وإلغاء الآخر!!!

بيد أننا نجد القرآن في خطابه على ألسنة أنبيائه مثلا: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فجعل الجميع سواء في الهدى والضّلال، ونسب الإجرام ابتداء إليه!!!

وهذا إبراهيم يخاطب أباه: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} …

ويقول الله تعالى في الدّعوة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، ويقول في الخطاب: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.

وطبعا لن نتحدث عن آيات حرية المعتقد والدعوة إلى البحث والسّير والنّظر في الأرض، والآيات الكونيّة، فهذه امتلأ بها كتاب الله تعالى.

ولستُ هنا مدافعا عن الإلحاد، فهذه كلمة مطاطة أصبحت تطلق جزافا، وإطلاقها تعميما أخطر من إنكار الذّات الإلهيّة ذاته؛ لأنّه في العقل الجمعيّ أنّ الملحد مرتد يقتل إن لم يتب، وتطلق منه زوجته، ولا يرث، ولا يغسل ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين، فلما يطلق هذا تعميما دون تقعيد قد لا يظهر أثره السّلبيّ الآن، ولكنه سيظهر عندما يضعف الأمن، ولو كانت حكومتنا دينيّة بحتة لربما رأينا عشرات الرّؤوس معلقة باسم الإلحاد، وعشرات الأسر مشتتة ومفرقة!!!

وكما أنّي لا أدافع عنه ولكن في الوقت نفسه لابد من تقعيد المصطلح، والبعد عن العموميات، فدعوى أنّ الإلحاد [مسلك الشّهوات] فهذه بلاد المسلمين شرقا وغربا، صوت الأذان يصدح فيها، والنّاس زرافات في المساجد، ولكن إذا نزلنا إلى السّوق والمعاملات نجد الغش والكذب، ونجد أكل أموال النّاس بالباطل، ونجد القذراة وسوء الكلام، والتّحرش والنّميمة والغيبة، والعديد من هؤلاء هم من يتكاثرون يوم الجمعة، ومنهم من لا يفارق مسبحته، ولا يتخلف عن الصّف الأول في المسجد، فهل يعني هذا نحارب التّوحيد لأنّه لم يخلّصنا من الفواحش؟ وهذه العديد من أماكن الفواحش يملكها مسلمون يوحدون الله، فالقضيّة في الفواحش ليست قضية إلحاد، ولكنها أعمق من ذلك بكثير جدا!!!

ودعوى [انتشار الجريمة واختلال الأمن] فلو دخلنا أقرب سجنا هل المسجونون فيه بسبب الجرائم ملاحدة؟!! ومن يقوم الآن بالتّفجيرات، ومن يكفّر الآخر، ومن ينشر فوضى الفتاوى باسم الدّين، ومن يكفّر الحكام والمذاهب، هل الملاحدة؟!!!

أمّا مسألة التّواصل الاجتماعيّ فهو وسيلة كالكتاب والنّادي والمدرسة والجامعة ونحوها، وتحصين الأجيال بخطابهم عقليّا، وإلا فالبعثات أخطر من وسائل التّواصل، فهل يعني هذا نطالب بوقف البعثات خشية الإلحاد!!!

لهذا أرى لو سلكت الخطبة المسلك القرآنيّ في بيان إثبات وجود الله تعالى من خلال الآيات الكونيّة والعقليّة، مع احترام الآخر، وعدم اتهامه بالكفر والخروج من الدّين لشبهات عموميّة دون تقعيد قانونيّ وعلميّ، وإلا فالحقيقة مثل هذا الخطاب يخشى منه ولادة تطرف بدعوى محاربة الإلحاد، وهذا ما يخشى منه، فالخالق أعطى النّاس حرية السّؤال والبحث والنّظر، وأعطانا حرية البلاغ والجدال بالّتي هي أحسن، ولم يعطنا صكوك تكفير العباد، وإخراجهم من الدّين!!!

فيسبوك 1438هـ/ 2017م

السابق
أخذ أموال الناس للرقى وقراءة القرآن والتعاويذ
التالي
التوسع في دائرة البدعة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً