كلمة ألقيتها افتراضيّا في ندوة أربعينيّة الحسين، مع جامعة المصطفى في قم بالجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، يوم الخميس 20 صفر 1442هـ/ 8 أكتوبر 2020م، وقدّمت ورقة بعنوان: “الاحتفاء بأربعينيّة الإمام الحسين وأنسنة الخطاب الدّينيّ”، ونشرت أيضا الورقة في موقع المرقاب في ألمانيا.
إنّ الحسين بنَ عليّ بن أبي طالب (ع) رمزيّة إنسانيّة قبل أن تكون رمزيّة إسلاميّة، وفضلا أن تنحصر في الجوّ الشّيعيّ بمدارسه المتعددة، فلمّا نتحدّث عن الحسين، ونحن نقترب من أربعينيّة الحسين، والّتي أول من نسب إليه إحياؤها الصّحابي جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وبغض النّظر عن النّسبة إلا أنّ ما قام به الحسين بن عليّ يحتاج إلى وقفة ليست تأريخيّة، وإنّما وقفة معاصرة، نعيش فيها عصرنا بحسناته وسيئاته، بتقدّمه وتأخره، بانتصاراته وإخفاقاته، ثمّ لا نعيش لمجرد الذّكرى وترديد الخطاب، وإنّما نعيش هذا العالم لنكون جزءا منه نساعد في بنائه، ونستثمر هذه الوقفات في آلية خدمة المجتمع الإنساني.
فالحسين بن عليّ جاء لإحياء دين جدّه، وفي دين جدّه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، وفي دين جدّه أيضا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
فدين الإسلام جاء لإصلاح الأرض لا لخرابها، وجاء لتحقيق التّعايش والبناء بين الجنس البشري، واستثمارُ اختلاف البشريّة استثمار يبني هذا الكون ولا يهدمه، ويرفعه ولا يخفضه.
ومن المعلوم لديكم أنّ أربعينيّة الحسين لهذا العام تطل علينا ونحن في ظلّ جائحة كورونا، هذا الفيروس الّذي تحوّل إلى وباء يهدد الجنس البشريّ بلا تفريق بين أحد منهم، فبدأ في الصّين الشّيوعيّة، لينتشر في الشّرق عموما بتدينه واختلاف معتقده، وإلى الغرب بليبراليته ورأسماليته، فأصبح الإنسان كذات واحدة أمام هذا المرض، بعيدا عن المعتقدات الأيدولوجيّة، والتّصورات الماورائيّة.
لقد كشف كورونا الواقع البشريّ في حقيقته، والّذي مع تقدّم التّكلنوجيا والمعارف المعاصرة؛ إلا أنّه ابتعد عن إنسانيّته، لنرى الطّبقيّة والعنصريّة في أبهى صورها، وهذا ما جاء الحسين لإماتته، فدين جدّه، ودين جميع الأنبياء من قبله، ومنهج جميع الفلاسفة هو إحياء الإنسان، ومحاربة الظّلم، وإقرار العدل في المجتمع البشريّ عموما، ليقترب من ماهيّته وذاتيّته الإنسانيّة.
والسّؤال الّذي نطرحه هنا: لماذا خرج الحسين يومها؟ هل للثّأر لأبيه وعائلته؟ أم لغاياته وغايات فخيذته من قريش ضدّ بني أميّة؟ في وقت لم تتشكل المذاهب بعدها لنقول إنّه خرج نصرة لمذهبه، أو أنّه خرج ضدّ من انتسب إلى دينه فسقط القول إنّه متعصّب دينيّا، فإذا انتفى هذا كلّه؛ فدلّ هذا أنّه خرج لأجل هذا الإنسان، ولتحقيق رسالة الإنسان.
ونحن بعد ألف عام، تعددت الصّور، إلا أنّ الإنسان هو الإنسان، فإذا كان خروج الحسين لأجل الإنسان، فالغاية نبيلة، والغايات النّبيلة لا تتقادم وتبقى واحدة؛ لأنّها ملتصقة بالمبدأ الثّابت الّذي لا يتغير، فنحن بحاجة أن نخرج أيضا كما خرج الحسين، الخروج الذّي يقترب من ماهيّة الإنسان وأنسنته، فالأنسنة في جملتها تقوم على أسس: إقرار التّعدديّة الدّينيّة والمذهبيّة والفكريّة والعرقيّة والأثنيّة في المجتمع، ثمّ حقوق الفرد الذّاتيّة وكرامته الإنسانيّة، وتحقيق الحدّ المعيشيّ الحافظ لكرامته ومكانته في المجتمع، ثمّ أنسنة القانون، بحيث يكون حافظا لكرامة الفرد الإنسانيّة، ومن جهة أخرى محققا للعدل والاستقلاليّة، ثمّ أنسنة مؤسسات الدّولة، بحيث تبنى على الكفاءة الذّاتيّة للبشر، لا على أساس التّوجه الدّينيّ أو المذهبيّ أو القبليّ أو المناطقيّ، فأنسنة المؤسسات أكبر وسيلة لاستقرار الدّول وتطورها ورقيها ونمائها، ثمّ تحقيق العدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوق الفرديّة بناء على القيمة الذّاتيّة للفرد، وأخيرا التّعاون في تحديث الدّول وأنظمتها ودستورها وهيكلها بما يعزز القيمة الإنسانيّة في المجتمع، ويحافظ على الحريات والحقوق الذّاتية للمجتمع ومواطنيه ومن يقيم فيه.
والسّؤال الآخر الملتصق بهذه الأمّة الإسلاميّة وهويّتها؛ هل هي قادرة على تحمل هذه المسؤوليّة، فالبيت الإسلاميّ وقت خروج الحسين (ر) كان بيتا صغيرا لم يتمدد بعد كتمدده اليوم، إلا أنّ البيت الإسلاميّ اليوم، ومع الانفتاح والتّقارب في وسائل التّواصل جعلنا نعيش ضمن قرية واحدة متداخلة، وأصبح البيت الإسلاميّ مكشوفا على الجميع بأصل نصوصه، وزيادات تراثه وتأريخه، بحسناته وسيئاته، لهذا أصبح هذا البيت ليس مفتوحا على العالم فحسب؛ بل على أفراده ومكوناته هو في الدّاخل، لهذا التّعددية داخل البيت الإسلاميّ حقيقة واقعيّة يجب أن تستثمر في بناء هذا البيت، وخدمة المجتمع الإنسانيّ الكبير.
وبما أنّ العالم الإسلاميّ نتيجة الإعلام الجديد، ومرحلة ما بعد الصّحوة؛ يتجه إلى قراءات جديدة للنّص والتّراث الدّينيّ، ولسبب كونها أحاديّة، وعدم انطلاقها من مؤسسات، قد يحدث نوعا من الضّبابيّة، ممّا يولد مع الصّورة السّلبيّة للتّراث والتّدين، إلى زيادة حالات الإلحاد في العالم الإسلاميّ، أو على الأقل زيادة معدلات الرّبوبيين أو ألا أدريين، أو حتى النّفاق الدّيني والعقائديّ.
لهذا على المؤسسات الدّينيّة، خصوصا في الحوزات والجامعات المختصة بالفكر الدّينيّ وشرائعه؛ فتح أكبر درجة لمراجعة التّراث والنّص الدّينيّ الّذي يتولد من خلال الأنسنة، بداية من أنسنة التّأريخ، فتأريخ هذه الأمّة تأريخ بشريّ إنسانيّ يحوي النّجدين: الخير والشّر، الصّواب والخطأ، الإيجاب والسّلب، كتأريخ أي أمّة في الأرض، فليس ملائكيّا مميزا، وليس حيوانيّا شهوانيّا، وأنسنة التّأريخ أي رفع القداسة عنه، فليس نصّا تشريعيّا مغلقا ولا مفتوحا؛ بل هو تجربة بشريّة، تدرس بشكل أكاديميّ لا أكثر، فلا داعي للصّراع حول رموز مرجعها إلى باريها، وهو العدل الّذي لا يظلم أحدا، ويسع في هذا قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة/ 134].
ثمّ أنسنة الخلاف الكلاميّ والعقائديّ، لأنّ هذا الخلاف شيء طبيعيّ تكوينيّ من أهم أسبابه أنّ النّص القرآني بطبيعته نص مفتوح، ولكونه مفتوحا فهو قابل للتّأويل، فأنسنتها هنا أي جعلها في قدرها الإنسانيّ الطّبيعيّ، وهي حالة صحيّة، لا يترتب عليه تكفير ولا تفسيق، لأنّه كلّما كان التّأويل واسعا كانت التّعدديّة حاضرة، وعليه يرتفع الحكم على المختلفين في البيت الإسلاميّ بالجنّة والنّار، وترك الحكم لله وحده، ويتسع هذا مع باقي الطّوائف من باب التّعدديّة المرتبطة بالإنسان، ومراجعة الأحكام الظّرفيّة في ذلك كالجزية وحدّ الرّدة والولاء والبراء وغيره.
وهكذا فيما يتعلّق بتقديس وإطلاق التّراث، حيث يعتبر التّراث بنصوصه وتطبيقاته، بأساطيره وواقعيته، الشفويّ منه والماديّ، ملكا للجميع، وتراث مجتمع البيت الإسلاميّ تراث إنسانيّ مفتوح، وهو تجربة بشريّة في مختلف فنون المعرفة الإنسانيّة والتّجريبيّة، إلا أنّ الإشكاليّة الّتي تؤثر على مجتمع البيت الإسلاميّ هو جعل التّراث جملة نصّا مطلقا، مع التّعصب له، وحرمة نقده، والبحث في سوءات الآخرين عن طريق قصاصات الكتب الصّفراء، وعليه الأصل أن يقرأ التّراث قراءة إنسانيّة طبيعيّة، فهو ظرفيّ مرتبط بفترة زمنيّة، فقراءته لا تكون مطلقة، وإنّما يراعى الزّمان والمكان الّذي وضع فيه، فيستفاد من حسناته، وتنقد سيئاته، ولا يتعصب له.
ولهذا اختم كلامي، والعديد يحتفي بأربعينيّة الحسين (ع) بضرورة الخروج كما خرج الحسين من الواقع المتشتت، والّذي كثيرا ما تفرضه السّياسات، مع استغلال الدّين له، فإذا قدّم الحسين ملحمته، فلا أقل أن نقدّم ونحن ننتصف من القرن الخامس عشر الهجري هذه الملحمة والّتي تراجع هذه الأمّة هوّيتها لتشارك في بناء المجتمع الإنسانيّ الكبير، وأراه يتمثّل في التّالي:
أولا: إقرار الماهيّة الفرديّة، وكسر استبداد المجموع [سلطة أو مؤسسات] باسم الهوّيّة، وأن يكون إحياء الهوّيّة عن طريق الإقرار بالتّعدديّة، وأنّ الجميع على قدم المساواة، وهذا يؤدي إلى تضييق نشوء عوامل التّطرف في المجتمع، فالنّفس البشريّة نفس واحدة، لها حق الحياة، وحق التّمتّع بالوجود، والنّصوص الدّينيّة لا تخلو من ثلاثة أوجه : نصوص تكوينيّة أي أنها تقر “الاختلاف والتّعدد دينا ولغة ولونا وجنسا لأنّه جانب تكوينيّ، لا يتعارض وحق الحياة والتّمتع بها، لهذا من أحياها وحافظ عليها كمن أحيا النّاس جميعا، خلاف من سعى لإفسادها ودمارها، ونصوص تشريعيّة تكون حافظة للحق التّكوينيّ، فهي مصاديق حافظة له، فإن كانت هذه التّشريعات عكس ذلك فهي لا قيمة لها”، ونصوص جزائيّة تجعل “الجزاء بيد الله تعالى وحده، فلا يجوز أن نشاركه في الحكم، فندخل من نشاء نحن في رحمة ربنا، ونخرج من نشاء، وهذه قضيّة غيبيّة مرتبطة بالفرد أولا، وبالعدل الإلهي ثانيا؛ لأنّه أعلم بعبادة وبخلقه سبحانه، لا يظلم أحدا أبدا” .
ثانيا: إحياء هوية الأمّة الواحدة في الجانب الاقتصاديّ، وأنّ ثروة الأمّة في الإنسان، وأنّ الأنسان كرامته في العالم واحدة، وعليه كرامة الإنسان في العالم الإسلاميّ والإنسانيّ واحدة أيضا، فإذا أحدث النّفط طفرة اقتصادية، فتشبث به، وأهملت الثّروات الأخرى؛ إلا أنّ هذه المادة قد تنضب يوما، أو تقلّ قيمتها في يوم ما، ويبقى الوطن والإنسان، والوطن بجغرافيته الضّيقة ضعيفة، وقوته بقوّة مجموع الأوطان والدّول، وعليه إحياء أي دولة وتحديثها هو إحياء للكل، وإماتتها وتخريبها تخريب للكل.
ثالثا: تحقيق الهويّة من خلال الدّولة المدنيّة العادلة، حيث يؤدي إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة، وبشكل طبيعيّ انخفاض معدلات البطالة، ممّا تقل “الجريمة وينخفض معدلات الاغتصاب، والجهل والأميّة، والمرض والقذارة المسببة للأمراض المتعددة، واتجاه الشّباب نحو المخدرات والجرائم الأخلاقيّة والمجتمعيّة” .
رابعا: الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة وجميع الشّعوب المستضعفة، وحق الإنسان الفلسطينيّ كغيره من البشر في كرامة إنسانيّة تليق به في أرضه، وينطبق هذا على جميع المشردين والّلاجئين، والقضاء على ظاهر البدون في العالم العربيّ.
وبهذا نحقق رسالة الحسين في إحياء الإنسان وكرامته.
رحم الله الحسين وأبا الحسين، وأحفاده وذرّيته، والمخلصين جميعا، وصلّى الله على سيدّنا محمد، وآله وصحبه.
مراجع كتابيّة لكاتب المقال اعتمدّت ونقلت شيئا منها هذه الكلمة:
- بحث للكاتب بعنوان: بحث بعنوان: الحوار الثّقافيّ ودوره في تعزيز التّماسك الاجتماعيّ، نشر في مجلّة التّكوين العمانيّة، عدد 50، ربيع الثّاني 1441هـ/ ديسمبر 2019م، ص: 80 – 81.
- بحث للكاتب بعنوان: مستقبل العالمين العربيّ والإسلاميّ في ضوء المتغيرات الجارية بالمنطقة والعالم [إحياء الهويّة ومشترك الأنسنة نموذجا]، لم ينشر بعد.
- مقال للكاتب بعنوان: الخطوط الثّلاثة في القرآن الكريم: التّكوين والتّشريع والجزاء، نشر مجلّة الصّحوة الالكترونيّة، 16 إبريل 2018م.
- مقال للكاتب بعنوان: كورونا بين الإيمان والدّعاء والسّببيّة الطّبيعيّة، نشر صحيفة شؤون عمانيّة الالكترونيّة، 16 مارس 2020م.