نشرتُ بالأمس تغريدة حول الغناء، وقبل أقل من سنتين نشرت مقولة للعلامة عبد الرحمن بن عمر بكلي المشهور بالبكري المتوفى 1986م والتي يرخص فيها بالسّماع، وقد بلغت الردود حينها فقط في المنشور أكثر من سبعمائة رد، وغالبها سب وشتم!!!
وبالمقارنة مع منشور الأمس نجد الفارق كبير فمعدل من استوعب القضية، وأصبح يستقبل الرأي الآخر أخذ الحجم الأكبر، وعليه أتصور لو طرحناه بعد سنوات سنجد القليل جدا من يستهجن، وهذا ليس في منشور السماع فحسب؛ بل غيره من المنشورات.
لعلي لا ألوم المجتمع الذي تعود لأكثر من ثلاثة عقود على الأحادية في الرأي الواحد، في مجالات عديدة، منها من ماتت بموت أصحابها، فقد كان الثالوث الأكبر اللحية والإسبال والغناء الحاضر الأكبر في المحاضرات والمساجد.
وكنا يصور لنا من ارتكب هذه الثلاثة فهو خالد في النار لأنه ارتكب معصية تحولت إلى كبيرة بسبب الإصرار، وتجب البراءة منه باطنيا.
لذلك تبرأنا من أقاربنا بل وآبائنا لأنهم يرتكبون بعض هذه المعاصي، وإذا مات لا يترحم عليه، ولو كانت الأم أو الأب، وألو الفضل لا يحضرون جنائزهم.
قد يقول قائل إنّك تبالغ، فيا ليت لو كنت أبالغ، وأنا ملتصق زمانا بهؤلاء، وأدرك أشد من هذا سنذكره في حينه.
لهذا مثلا حدثت ردة بالمفهوم المطاوعي إن صح التّعبير حتى من تلاميذ المشايخ ومقربيهم، وأدركنا بعضهم، وبعضهم أدركناهم لاحقا، قبل أن يظهر مفهوم العقلانية بسنوات عديدة، فمنهم من حلق ومن من يسمع، وبعضهم طرد من المعهد ظلما!!!
كنا بالفطرة نراهم يترحمون على النامي وهو حليق فقال لنا بعضهم لما سألناه هي مسألة رأي وهو متأول، ولكنها إذا ظهرت في القطر الإباضي العماني أصبحت مسألة قطع ويفسق!!!
عموما أرجع إلى تغريدتي، لم أجد حتى الأن ردا علميا، حتى الأخ خالد الهاشمي غاية ما كتبه لم يأت يرد ما كتبناه إلا اتهامنا بالتعالم والتلاعب بالدين والاستهزاء ونكران السنة، كعادة الشريط الذي يكرر دائما.
لقد كتبت سابقا منشورا كبيرا واحترمت رأيهم، ومع ذلك يصرون أن يجعلوها من الكبائر القطعية، وليت شعري هلا أتحفونا بدليل قطعي ورودا ودلالة، وإلا إن لم يجدوا فما لهم إلا التسليم بأنها من المسائل الظنية، والمسائل الظنية المحتملة لأكثر من احتمال من مسائل الرأي.
وإن وجدوا دليلا قطعيا متواترا فأنا أعلن للأخوة الأجلاء تراجعي، مع احترام المعرفة العلمية، وأنا منتظر لذلك، ويسعدني ذلك كثيرا.
فالقرآن وقد كتبت حوله مقالا موسعا في آية اللهو لا يوجد بها دليل وقد صرّح بذلك مجموعة كبيرة من الصّحابة والتّابعين، وكبار العلماء، على أنّها لو حملت على الغناء لكان المراد ما يضل لا ذات السّماع، كأي حديث آخر، والقاعدة تقول: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
أما أهم المرويات التي يستدلون بها حديث عبد الرحمن بن غنيم قال حدثني أبو مالك أو أبو عامر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليكونن في أمتي قوم يحلون الحر والحرير والخمر والمعازف.
والرواية اختلف في صحتها فقد اعتبرها ابن حزم موضوعة لأنّ البخاري قال: قال هشام مع أن لفظة قال ليس من صيغ الاتصال، والبخاري لم يلق هشاما فالحديث منقطع، والمنقطع من أقسام الضعيف.
وذكروا أنّ هشماما حدّث بأربعمائة حديث ليس لها أصلا، وقالوا أنّه كان يبيع الحديث!!!
وعليه كانت رواية ابن ماجه وهي أصح عندهم من الأولى، ونصها ليشربن من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، ويجعل منهم القردة والخنازير.
قالو ومن تأمل الرواية أدرك عليّة المصاحبة للخمر وليس لذات المعازف أو الغناء، فهو حكم يدور مع علته وجودا وعدما، وليس الاقتران في ذاته دليل، لوجود قرائن أخرى من الروايات سيأتي ذكرها بإذن الله تعالى.
أما رواية: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، صوت مزمار عند نغمة وصوت مرنة عند مصيبة، فعند أهل الحديث خلاف كبير بين جعله موضوعا أو ضعيفا أو حسنا، وقد رواه الربيع عند الإباضية، وهو ذاته لا يدل على المنع لأنّ صوت المرأة لا يدل في ذاته على الحرمة وإنما ما يصاحبه من النياح فكذلك صوت المزمار.
أما المرويات الأخرى فمنهم من جزم على أنها من وضع الوعاظ، والشوكاني وغيره تحدث فيها، وهي مختلف أصلا في ذات صحتها، ولا يكاد تجد رواية واحدة متفق عليها.
وإذا جئنا إلى التحليل العقلي نجد هذه الروايات متناسبة مع تأريخ التحديث في آخر الدولة الأموية والعباسية، حيث مجالس القيان والخمر والمعازف فناسب المقام وضع هذه الروايات حسب هذه الصورة النمطية.
وبسبب بساطة الراوي تجاهل العلم الموسيقي الذي أثر قانونا في العلوم الأخرى، وعليه ناقش هذا الفارابي في كتابه القانون في مرحلة متقدمة، من شاء فليرجع إليه.
كذلك ناقش الإمام أبو حامد الغزالي الغناء بالمعنى الصوفي في كتابه الأحياء، كما أسلفنا في المقال السابق.
وإذا نزلنا إلى الروايات الأخرى وهي أكثر صحة عند أهل الحديث ومنها رواية البخاري عن عائشة: دخل أبو بكر، وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا.
ففيه دليل واضح على إقرار النبي عليه السلام، إلا أنهم اعترضوا أن الجواري صغار، وأبو بكر أنكر على علمه بالتحريم، فهذا تناقض، فكيف ينكر الفعل على الصغار!! ثم إن إنكار أبي بكر مبني فقط على الاحتمال، والأصل إقرار النبي، وهم يقولون إقرار الرسول من السنن التقريرية.
ولعل استنكار أبي بكر لطبيعة أهل مكة الذين بطبيعتهم يستوحشون الغناء خلافا لأهل المدينة الذين اشتهروا بالمرح واللعب والغناء، وعندما استقبلوا النبي استقبلوه بالغناء بالدف والأهازيج ولم ينكر عليهم عليه السلام ذلك.
وهنا بعضهم قال إنّ الجواري كن يضربن الدف، والدف آلة، وهي قرينة على الجواز ما لم تستخدم في محرم.
ومنها رواية جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُني علي، فجلس على فراشي مجلسك مني، فجعلت جويرات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال: دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين.
وهذا يدخل أيضا في السنة التقريرية حسب تقسيم أهل الحديث.
ومنها رواية عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو.
وعلى العموم هناك روايات أخرى كرواية مزامير أهل داود فكيف يشبه النبي بأمر محرم، وقد قال العديد من أهل الحديث أنّ روايات الأقرار أصح من روايات النهي.
وعليه قاسوا الآلات الأخرى ومنها الطبل وهو مذهب ابن محبوب وأصحابه فقد أجازوا ضرب الطبل لاعتبارات كإرهاب العدو، والرزحات كانت تغنى في عمان مع الطبل في الاستقبال والأعياد وغيرها.
ومن الإباضية من أجاز القصبة وهي من آلات الغناء تشبه المزمار، قال أبو زكريا يحيى بن سعيد: وأما القصبة الكبيرة فلا إلا على الجماعة على اللهو والغناء، فإن المسلمين أي الإباضية أجازوا استماعها لمزيد كربها من الآخرة، أخبرني زياد بن الوضاح أنه رأى أباه أي العلامة الوضاح يستمعها وهو يبكي.
فهذه من الآلات الموسيقية المقيسة.
والعلامة بيوض توسع في الطبل والمزامير والعيدان وغيرها من الآلات إذا اجتمعت مع غناء فحلالها حلال وحرامها حرام.
وسماحة الشيخ أحمد الخليلي في فتوى قديمة اعتبر كذلك الموسيقى العسكرية مباحة.
وعموما لست هنا بإيراد أقوال العلماء فقد جمعت أقوال المذاهب الثمانية في بحثي ويصعب ذكرها هنا لضيف المقام.
ولم أرد ذكر هذه المرويات إلا لطلب البعض، فنزلت عند رغبته، وإلا فالأصل كتاب الله حاكم لعيره، وقد أعطى لجمال الوجود قدرا ومنه بطبيعة الحال جمال الصوت، وقد تحدث العديد من المعاصرين عن فلسفة الجمال، كجمال الصوت.
فيسبوك 1436هـ/ 2016م