الاستهلاك ضرورة فرديّة ومجتمعيّة لا يمكن الانفكاك عنها، فهي ضرورة لإرواء غريزة في الإنسان من حيث الطّعام أو التّجمل والسّتر كاللّباس أو التّنقل، فالإسلام كباقي الشّرائع الإلهيّة لا يقف منها موقف الرّافض، إذ لا يمكن عقلا ولا شرعا رفضها، إلا أنّه يقف منها موقف الإباحة وفق دائرتين: الأولى الإيجابيّة وهي الاعتدال، ويتمثل هذا في قوله سبحانه وتعالى: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء/ 29]، والدّائرة الثّانية سلبيّة وهي تحريم السّرف ويتمثل هذا في قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف/ 31].
ولا شك أنّ شهر رمضان المبارك لا يختلف عن باقي الشّهور من حيث حاجة الإنسان لإشباع هذه الغرائز، إلا أنّه طلب منه الإمساك من طلوع الفجر إلى غياب الشّمس مع استثناء المريض والمسافر ومن يشق عليه، وهذا في الأصل دربة على التّذكير بنعمة هذه الغريزة، وما جعله في الطّبيعة من إشباع لها، وفي الوقت نفسه تحقيق للاعتدال المجتمعيّ في ذلك وفق دائرة الإنسان الواحد المشترك في أرواء هذه الغرائز.
إلا أنّ رمضان قد يكون له بعض لمساته الخاصة في الطّعام حسب أعراف النّاس وتقاليدهم، وحسب اختلاف بيئاتهم ومناطقهم، وهذه أعراف لا تقف منها الشّرائع أيضا موقف الرّافض؛ لأنّ العرف قضيّة معتبرة عند الشّرائع جميعا {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف/ 199].
وعليه أنّ هذه الأعراف مرهونة بما أسلفنا من دائرتين: التّوازن وعدم السّرف، وهذه يقيسها الفرد بنفسه، ولا ينظر إلى غيره، ولا يستدين لأجل السّرف بها، كما أنّه لا يبذر لأجل ذلك أيضا!!!
فيكون استهلاكه في رمضان بقدر متوازن بين ما يشبع غريزته وغريزة أسرته من الطّعام والشّراب، وبين البعد عن السّرف والتّبذير، فلا داعي مثلا من الإكثار من أصناف المأكولات في اللّيلة الواحدة، والّذي يرمى أغلبه؛ لأنّ للإنسان شهوة قبل دخول صومه، وشهوة قبل غروب يومه، فإذا ما أكل شبع، وبالتّالي عادة يرمى أغلبه أو يفسد، فهنا يحقق دائرة التّوازن، ويبتعد عن دائرة السّرف، وإن فضل شيء من طعامه، فليجمعه ويطعم به غيره أو ابن السّبيل، خاصة من جاء إلى بلاده للعمل أو طلب العلم أو السّياحة، ولا أسرة لهم تخدمهم؛ فليرزقهم ممّا رزقه الله تعالى، وليتعود على عدم رمي شيء من طعامه أو شرابه، شكرا للمنعم أولا سبحانه وتعالى، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم/ 34].
ثمّ إنّ رمضان طاعة، والسّرف معصية، ولا تجتمع المعصية مع الطّاعة، فكيف يبذل وقته ونفسه طول يومه صوما وتبتلا ودعاء، وإذا ما غربت شمس يومه سرف في طعامه وشرابه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمّد/ 33].
والتّوازن في الاستهلاك فائدته تعود إلى الفرد والمجتمع، فعودته إلى الفرد أنّه كلمّا اعتدل في نفقته استطاع قضاء حوائجه الضّروريّة الأخرى من قضاء دين، أو دفع مستلزمات ضروريّة، وقد يكمل ذلك من مساعدة مسكين، أو علاج قريب، أو تعليم فقير أو يتيم، وإن استكمل ذلك كانت له فرصة للاستثمار، وهذا يعود نفعه إلى المجتمع، فعدم التّوازن وعدم الاعتدال فيه، مع السّرف في الإنفاق في رمضان وغيره، يعود ضرره على الفرد والمجتمع، مع كونه مخالفة قرآنيّة واضحة، فلا داعي أن ينظر إلى غيره، ولا داعي من التّقليد المذموم، كما أنّه لا ينخدع بإغراءات الشّركات والمحلات الكبيرة، فهو قائد سفينته، وهو ربانها، وحسن تصرفه وإتقانه سوف يصل بهذه السّفينة إلى بر الأمان، ويعيش مرتاحا طول حياته، وينعم من يعيش معه ومن هو تحت عنايته ورعايته بحسن تصرفه واعتداله وعدم سرفه واستهلاكه، ثمّ ليكون رمضان دربة على الاعتدال في الاستهلاك، لا دربة على السّرف والتّبذير!!
ملحق هيئة حماية المستهلك 1439هـ/ 2018م