المقالات النقدية

رشاد خليفة ت (1990م) والعقلانيون

من الملحوظ طول التأريخ الإنساني والإسلامي خصوصا أمران: الأمر الأول: التعميم، والأمر الثاني إقصاء الآخر باسم مستهجن في زمن ما، بحيث يكون هذا الاسم نفسه ضبابيا غير مقيّد بحدود واضحة المعالم.

فمثلا عندنا في الخط التأريخي الإسلامي الأول الألقاب الثلاثة الخوارج والروافض والنواصب، كلّ لقب يحمل في طياته من العموميات وإقصاء الطرف الآخر، ومع هذا حتى اليوم يصعب تحديد مفاهيمها، والمقصود منها إلا عموما، ولذا تظهر عند الصراع الأولي بقوة بين طوائف المسلمين بغرض تشويه صورة الآخر غالبا.

ومن هذا الألقاب التي نشأت مؤخرا بصورة قوية عندنا مع استعمالها القديم في التراث الفلسفي والمسيحي خصوصا ضد المعارض للفكر اللاهوتي تارة باسم العقلانية، وتارة أخرى باسم الهرطقة أو الزندقة.

لعل التأريخ الإسلامي لم يستخدم هذه لفظة العقلانية بشكل مباشر، وإنما استخدم لفظة أخرى بداية بأهل الرأي كتشنيع لمن يعادي الأثر، ثم ظهرت فئة من المسلمين تنقد التأثر بأهل الكتاب والتفسير الحرفي لنصوص الشريعة، وإهمال الجانب العقلي في التعامل مع النص الموروث والمنسوب إلى الرسول أو أصحابه أو التابعين، وأطلق على هؤلاء المعتزلة والذي كان محصورا من قبل الحنابلة ثم استخدم بقوة في الفكري السني عموما، واتهم بعض علمائه بهذا اللقب الذي أصبح ذما مع مرور الأيام، وكذا أطلق أيضا لقب الجهمية لمأول النص القرآني في الصفات الإلهية خصوصا.

عموما هذا الألقاب تارة تظهر وتارة يقل ظهورها بنسب متفاوتة، إلا أنه في بداية القرن العشرين، بمجيء المجددين الكبار جمال الدين الأفغاني ت (1897م) ومحمد عبده ت (1905م) ولآثار هؤلاء في الجانبين السياسي والفكرة، فقد اتهما بصفتين الأولى الماسونية، والثانية العقلانية والاعتزال، وهكذا حدث التجديد حتى في ألقاب المخالف، كما ظهر بصورة كبيرة مصطلح الوهابية والتغريبية ومنكر السنة والإرهاب وعودة مصطلح الخوارج من جديد بصورة أوسع من الإطلاق المذهبي.

وبما أنّ حديثنا عن العقلانية حتى الآن لا نجد تعريفا واضحا لها، فدخولها إلينا مثلا في الفكر الإباضي بعد 2007م بصورة أولية، واتهام القارئ للتراث الإباضي خصوصا، والإسلامي عموما بالعقلانية حدث فريد، حدث إلى انقسام الصف الإباضي كالذي حدث في الجانب الإباضي المغربي في الثمانينات بين الإصلاحيين والمحافظين.

وعليه الانقسام يتسع لضبابية التعريف أولا، وعدم وجود معالم واضحة تحده ثانيا، وللانفتاح الفكري في المذهب الإباضي على غيره من التيارات الإسلامية وغيرها، وعليه وضع ألقاب إقصائية ستزيد الفجوة، بدلا من تهيأة القاعدة المشتركة في المذهب، لأن المذاهب الإسلامية جميعا قابلة إلى تعددية واضحة في قابل الأيام نتيجة اختلاف القراءات وتعدديتها، وانفتاحها على العالم أجمع، فلا بدّ من وضع القاعدة المشتركة التي تجمع بين الجميع، والتي تؤلف ولا تفرق.

ونعود الآن إلى رشاد خليفة والذي قتل عام (1990م) والذي عاش أكثر حياته في أمريكا، وهو من أصل عائلة مصرية متوغلة في الجانب الصوفي، والتراث السني عموما.

عموما ينسب لرشاد خليفة ادعاؤه للنبوة بعد ما أنكر السنة، ورغم ما بين الأمرين من التناقض لأنّ الرواية أكبر داعمة لهذا الاعتقاد كما سنرى لا العكس، ولكن مع صحته جدلا يبقى السؤال هنا ما علاقة رشاد خليفة بالعقلانيين وملازمة ذلك لادعاء النبوة وإنكار السنة؟، ولنأت لتحليل ذلك واحدا واحدا.

أولا: العقلانية وإنكار السنة

وهذه لها ضبابيتها، فما هي السنة التي يوصم منكرها بالعقلانية، هل هي الخط العملي للعبادات، أم الجانب الروائي، أم كتب الحديث، أم مناهج المحدثين؟!!!

فإذا جئنا إلى الخط العملي سنجد الجميع يمارس نفس العبادات بما فيهم رشاد خليفة، ولا يوجد ممن اتهم بالعقلانية لا يمارسها، حتى المغالين في حرفية القرآن!!!

وإذا جئنا إلى الجانب الروائي فكل عالم منفردا يقبل هذه الرواية ويرفض غيرها مما يقبلها الآخر، وعلى هذا جميع العلماء قديما وحديثا عقلانيون!!!

وإذا جئنا إلى كتب المحدثين أو الحديث فالسنة غالبا يرفضون مسند الربيع عند الإباضية، وكذا مجموع الإمام زيد، وكذا مصادر الحديث الأربعة عند الشيعة الإمامية، وكذا الإمامية أيضا يرفضون مصادر غيرهم من العامة، والإباضية لا يستندون إلى مصادر الشيعة أيضا، وعليه تكون جميع المدارس الإسلامية بمجموعها فضلا عن أفرادها عقلانية!!!

وكذا الحال في المنهج، فكل مذهب له منهج يرفض كليا المنهج الآخر أو بعض فروعه وأجزاءه، وعليه من حق الجميع أن يوصم بالعقلانية!!!

نخلص من هذا عدم وضوح الرؤية في السنة المنكرة، وعليه سيتهم مثلا محمد عبده ت (1905م) وأحمد أمين ت (1954م) وشلتوت ت(1963م) والغزالي ت(1969م) والقرضاوي في الطرف السني بأنهم منكرون للسنة في الطرف السني، وكذا علي شريعتي ت (1977م) على الوردي ت (1995م) وأحمد الكاتب وحسين المؤيد بأنهم منكرون للسنة في الطرف الشيعي، وهكذا مؤخرا عند الإباضية مع خميس العدوي، مع أنّ فرقة الإباضية توصم عند أهل الحديث بالمعتزلة والجهمية المنكرة للسنة!!! ونراها اليوم تلصق ما وصمت به في أفرادها!!!

ثانيا العقلانية وادعاء النبوة

وهذه أيضا لا أدري ما علاقتها، فلماذا يسلط الضوء على رشاد خليفة بينما يهمل آلاف من ادعى النبوة والذين خرجوا من الركام الروائي على مر التأريخ، وفي القرنين الأخيرين أكثر من ثلاثين مدعيا، الكل يستند إلى نصوص روائية، فضلا عن ادعاء المهدوية؟!!

في حين رشاد خليفة لم يكن له أي أثر ولا نتاج ولا أتباع، في حين الميرزا غلام أحمد القادِياني ت (1908م) والذي يعتبر المهدي المنتظر والمسيح الموعود، له الملايين من الأتباع في العالم، وجماعته تعتبر من أنشط الجماعات الإعلامية في العالم، وهذا خرج من رحم الفكر التراثي السني؟!!!

وكذا الحال عند الباب علي محمد بن محمد رضا الشيرازي ت 1850م والذي قال بالنبوة، ويتبعه الآن ما يقارب سبعة ملايين شخص في العالم، وهذا خرج من رحم التراث الشيعي الأخباري الشيخي!

وعليه لا علاقة البتة بين العقلانية بمعناها الخاص أو العام وادعاء النبوة، بل العكس هي أكبر أداة لرفض هذا الادعاء خاصة بمعناها الخاص مع هلامية معناها في الجانبين كما أسلفنا!

نخلص من هذا كلّه لا يصح إطلاق لفظة العقلانية هكذا بمفوهما الهلامي وجعلها سلاحا لإقصاء الآخر والسخرية به، وثانيا لا يصح كل من أنكر شيئا أو ادعى أمرا ما أن ينسب لآخرين، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.

وعليه لو كان الأمر هكذا لكان الإسلام جملة أولى بأن ينسب إليه بأنه أسهل طريق لادعاء النبوة، فعشرات من ادعوا النبوة خرجوا من رحم الإسلام، منذ القدم وحتى اليوم، هذا مع وضوح معالم الإسلام!!

من هنا كل يتحمل جريرته، ولا تزر وازرة وزر أخرى، فكيف ينسب إلى فئة أطلقها الخصم عليها، مع عدم وضوح معالمها رأسا؟!!!

وإن كان ثمة توصية فتوصيتي تتمثل في أمرين: الأولى أنّ سنة الاختلاف والتعددية قائمة كما أراد الله تعالى، فهو المتفرد بالوحدوية والأحدية سبحانه وتعالى، والثانية الإسلام بلفظه العام تسمية للمؤمنين وأنعم بها تسمية: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.

وعليه لا يجوز تفريق الصف وتلقيب الآخر بألقاب هلامية وإقصائية من الجانبين، فكما لا يجوز للطرف الآخر أن يطلق على غيره العقلانية أو منكر السنة ونحوها، فلا يجوز أيضا لهذا الطرف أن يطلق على مخالفيه التقليدية أو الكلاسيكية أو الأصولية، الأمر سيان لقوله سبحانه: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

كما أننا لنرجو أن تترك الأمة مخلفات الألقاب من معطلة ومجسمة وحشوية وخوارج ونواصب وروافض وجهمية ونحوها من الألقاب المفرقة للأمة، وتسمية الآخر بما يحب، وأعظم ما يتقرب به العبد هو مسمى الإسلام، فقد اختاره الله لعباده طول التأريخ، وذم ما يفرق الناس عنه، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.

وختاما {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

مساء السبت 4/5/2013م

السابق
الوحدة الإسلامية … الداء والدواء
التالي
في الذكرى الثالثة والثلاثين لاستشهاد الفيلسوف العراقي محمد باقر الصدر وأخته الأديبة أم الهدى
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً