المقالات التأريخية

الأيام الأخيرة مع صادق جواد

صحيفة شؤون عمانيّة 1443هـ/ 2021م

لمّا رجعت من مصر في أواخر مارس الماضي قبل رمضان بأيام كان كثير التّواصل معي: “متى ستأتي إلينا؟” قلت له: مشكلة الحجر حينها في (الفندق) لمدة ثمانية أيام، وفي اليوم الأخير مباشرة بعد قص سوار اليد الإلكتروني، ذهبت إليه ظهرا، فجلست معه حتّى اللّيل، وسألني عن مصر وأحوالها، ويركز على الجانب الفكري، ومستوى الوعي عند النّاس، فقال أريد أعمل حلقة عبر zoom عن التّلازميّات الضّروريّة لانضباط الأداء الإنساني، وكان قد كتب مسوّدة في ذلك، وجلسنا نتناقش حولها طويلا، وقال لي: “مشكلة النّاس لا يضبطون المصطلح”، وصادق جواد كان معتزا بلغته العربيّة مع تحدّثه بالإنجليزيّة والفارسيّة والأورديّة، وأخبرني أنّه تعلّم الصّرف منذ فترة مبكرة في مطرح مع أحد المشائخ من العراق الّذين درسوا في قم، أي تقريبا هذا في الأربعينيات من القرن العشرين، وهو متقن في صرف الكلمة، ومعرفة جذورها، ويرى هذه السّعة في اللّغة العربيّة غير موجودة في الإنجليزيّة.

قلتُ له: الأفضل تكون الحلقة بعد رمضان؛ لأنّه غدا لديك حلقة مفتوحة في صالون الإنسانيّة لأحمد سعد زايد من مصر عبر اليوتيوب، ولديك ندوة في رمضان مسجلة في قناتنا حول العقل والعقلانيّة وعلاقتها بالإلحاد، فقال لي: “لا بأس لنجعلها بعد رمضان”.

وهنا تواصلت معي مديرة مدرسة جابر بن زيد تريد الالتقاء بصادق جواد حول موضوع القيم، فنسقنا يوم الثّاني من رمضان صباحا، وطال الحديث حتّى الظّهر، كما زاره في رمضان الدّكتور بهمن أكبري رئيس الملحقيّة الثّقافيّة في السّفارة الإيرانيّة في مسقط سابقا، ومع كثرة هذه الزّيارات إلا أنّه كان يأنس بها، ويفرح خصوصا لمّا يزوره من الشّباب، ويناقشون معه قضايا فلسفيّة وفكريّة وجدليّة، كما أنّه مستمع جيد لهم، ويوجه لهم الأسئلة أيضا، وأخبرني: أنّه سعيد جدّا بهذا الحراك العلميّ والفلسفيّ، وسعيد بإسهامات الشّباب، وقال لي: “هذه الانشراحة لم تكن موجودة سابقا في عمان، وكانت على مستوى محدود جدّا، وكان النّاس عندهم شيء من الخوف”.

وانشرح صادق جواد كثيرا بجلسات برنامج (شاي كرك) كما سعد أيضا ببرنامج الأستاذ محمّد النّدابي، وقال لي قبل سفره إلى الهند: “أريد أسجل حلقة أخرى قبل سفري مع الأستاذ النّدابي، رأيته شابّا نشيطا وواعيا”، وتواصلت شخصيّا مع النّدابي، إلا أنّه لسبب زواجه كان موعده متزامنا مع سفر صادق جواد، وقلتُ لصادق سوف أقوم شخصيّا بعقد زواجه، قال لي: “أريد أن أحضر هذه اللّقاءات الاجتماعيّة، واستحضر معالمها وذكرياتها، وأنا في وداعي لهذه الحياة، فهل تستأذن للنّدابي أن أحضر؟” ولم يكن توجد ممانعة عند النّدابي: قلت له وبمشاورة بعض جماعته: إنّ هذه التّجمعات تمتلئ عادة بالنّاس وإن كانت على مستوى العائلة، فخشينا عليه بسبب كورونا، وأنا شخصيّا أصبت بكورونا بسبب تجمعات عقد الزّواج.

قال لي: “أريد أن أزور الأصدقاء، أريد أن أسلّم عليهم”، وكأنّه يريد أن يودعهم، وذكر لي مجموعة من الشّباب والمثقفين والكتّاب، فقلتُ له: ما رأيك نعمل جولة في عمان في إجازة عيد الفطر، فأعجب بالفكرة، فذهبنا ثاني يوم العيد بصحبة الطّالبين وضاح الهاشميّ وعظيم الدّين من الهند إلى إزكي، والتقينا بالشّيخ عليّ التوبي، وابنه الدّكتور معمّر، وكنت قبل سفري إلى مصر أعطيته كتابي الدّكتور معمّر: بين العلم والإيمان، وهكذا نتطوّر، فاتّصل بي بعد يوم تقريبا لمدة ساعة يحدّثني عن إعجابه بكتاب بين العلم والإيمان، وقال أريد أريد التقي بالدّكتور، وفعلت تواصلت مع الدّكتور، وذهبنا معا إلى صادق، ورأيت صادقا يحبّ أن يستمع من الدّكتور كثيرا، ثمّ باحثه في بعض مسائل الكتاب، وكان ذلك بحضور بعض الأخوة.

ثمّ ذهبنا إلى بهلا والتقى بالوالد والأخوة، ثمّ زار الأستاذ خميس العدويّ وحدث بينهما حديث طويل حتّى العصر، ثمّ ذهبنا إلى مركز الوّراق للأستاذ سالم الجديدي، وأعجب كثيرا بالمركز، وبهمّة صاحبه.

وبعدها ذهبنا إلى عبري لزيارة الشّيخ زهران العبري، وبسبب الحجر كان مبيتنا معه، وهنا جاء بعض الشّباب والمثقفين، وطال حديثم مع صادق جواد إلى منتصف اللّيل، وهو بكامل نشاطه وحيّويته، مستمعا ومجيبا ومناقشا، مع أنني ذهبت إليه صباحا ووجدته يمشي، فهو يمشي ساعتين صباحا، ولا يحبّ أحدا يكون معه؛ لأنّه كثير التّأمل مع الطّبيعة؛ هنا اعتذرت منهم، وفي أول الصّباح تصوّرته نائما، فقلت للأستاذ محمّد المعمري – وهو شاب متنوّر من عبري جاء للقاء صادق جواد، وأعجب به صادق جواد، وأرسل صادق له رسالة من الهند يتمنى لقاءه مرة ثانية -؛ قلت لمحمّد: ما رأيك نمشي ثمّ نوقظ الأستاذ صادق؟ فلمّا خرجنا وجدنا الأستاذ صادق يمشي وينظر إلى الطّبيعة، فلمّا اقتربت منه: قال لي: “بقي دورتان وأنهي تأملي من خلال المشي”، أي سبقنا بما يقارب ساعة ونصف!!

ثمّ ذهبنا إلى عبري، وفي الطّريق قال لي: :مررت هنا منذ زمن بعيد، وجميل أن أعيد الزّيارة لأنّه آخر حديث بيني وبين الطّبيعة هنا”، وقال: “أريد أن أتأمل قليلا”، فقد كنت استغل الوقت لآخذ أكبر قدر معرفي منه، ومن ذكرياته، وهو يطيل الحديث، فأحيانا الجواب يأخذ منه ساعة، لهذا لا اتّصل به إلا في وقت الفراغ؛ لما أعلمه من حبّه للإطالة، وهنا تأتيه الأفكار، لكنّك لا تشعر بالملل بسبب دقته وتنظيم فكرته.

عموما وصلنا إلى البريمي في مركز حدائق الفكر مع الأستاذتين نصرة المعمريّة وموزة الباديّة، وأعجب كثيرا بالمركز، وتجمّع بعض المثقفين رجالا ونساء، وهنا وصل خبره إلى العين في دولة الإمارات، وطلبوا أن نزورهم، فاعتذرنا بسبب قيود السّفر حينها نتيجة الاحترازات من جائحة كورونا، فذهبنا إلى صحار في منزل الأستاذ عليّ الحامدي، فكانت جلسة أغلبها حول القضيّة الفلسطينيّة، ثمّ قال لي: “أريد أن أزور الدّكتور عبد العزيز العوضي، فقد التقيت به قبل فترة في مؤتمر في عمان، وزرته بنفسي في بيته بشناص”، وذكر لي بعض ذكريات زيارته إليه ومع أحمد ابن الدّكتور عبد العزيز، وكان يثني على العوضي وعلى انفتاحه داخل الخط الإسلامي كثيرا، وفعلا تواصلنا مع الدّكتور وأبنائه ورحبّوا بنا كثيرا، كما تواصل معنا العديد، ومنهم أحد الأخوة من ينقل فوعدته لمّا يرجع من الهند، لكنّ كتاب الله سبق.

وقال لي ونحن في طريق العودة: “لي علاقة بشباب في ظفار أريد أزورهم” وله أحاديث مع بعضم ممّن يتواصل معه وذكريات، فقلتُ له: من ترجع نذهب بعونه تعالى، وذكر لي أيضا رغبته في زيارة الأستاذ أحمد الفلاحي قبل سفره، وكان يثني عليه، ولكن الجدول لم يتّسع، وأنا ذهبت إلى الأستاذ الفلاحي بصحبة الأستاذ إبراهيم الصّلتي وبلّغته سلام الأستاذ صادق، ورغبته في زيارته.

ولمّا اقتربنا من شقته في روي قال لي: “انصحك يا بدر بشيء لتعيش مرتاحا: تصالح مع ذاتك وتسالم مع غيرك”، أي لا تؤنب ذاتك بماضيها، وإنّما عش حاضرك، وأيضا سالم غيرك، وتعامل معهم بصفاء قلب دون الاشتغال بعيوبهم وتقصيرهم، والتفت إلى الحسن منهم، واستفد منهم، وعش بسلام ومحبّة مع جميع النّاس.

وفي صباح اليوم الثّاني كان بيننا حديث هاتفي طويل لجلسة التّلازميّات الضّروريّة لانضباط الأداء الإنساني، وهذه كانت آخر حلقة حواريّة معه بطلب منه، وكانت بتأريخ 24 مايو 2021م، وبعدها اقتربت منه، فقررت أن أواصل أعمالي الكتابيّة في “كوستا” روي؛ لأكون قريبا منه؛ لأنّه لمّا اتّصل به يسألني: “أين أنت؟” يتصوّرني قريبا منه، فإذا حدث اتّصال آتي إليه مباشرة.

وفي الأيام الأخيرة كانت زيارة الأستاذ سيّد عليّ موسوي والأستاذ سجاد من السّفارة الإيرانيّة، وكنت بصحبة الأستاذ زهران العبري، وشاركنا الأستاذ كمال اللّواتي، والطّالبان: وضاح الهاشمي ومعتز القاسمي، وطال الحديث من بداية العصر إلى ما بعد الثّامنة ليلا، وحاول البعض تثنيته عن السّفر إلى الهند، خصوصوا لانتشار الفطر الأسود، لكنّه كان مصرّا وعازما على ذلك.

وفي صباح سفره زرته بصحبة الأستاذ جمعة اللّواتي لتوديعه، فجلسنا معه إلى ما بعد الظّهر، ولمّا رجعت قال لي أريدك لوحدك، فرجعت إليه من السّيب مرة أخرى، وكأنّه يحدّثني حديث الوداع، وعرض عليّ زيارته في الهند، وقال لي: إذا جئت الهند يوجد لديّ مكان، وشرح لي أنّ أعلى البيت غرفة سقفها من الزّجاج؛ لأنّه يحبّ أن يرى سقوط الأمطار، وحركة القرود، والطّيور، فكأنّه يبادلها الحديث، وظلّ يحدّثني عن الهند والإنسان، وطلب مني أن أقضي حاجة لابن أخيه منوّر، فأخوه زوجته هنديّة، وتوفي في السّبعينات، وهو يقوم بخدمة عائلته وأولاده، ومنهم منوّر، وكان متعلقا به.

هنا قلت له: أنا أحملك إلى المطار، فقال لي: “ابن أخي منوّر سيحملني، ولا نريد تكليفك”، فاتّصلت به وهو في طريقه إلى المطار فقال لي: “الأمور طيبة، وسنظل على تواصل، ولكن توجد رسالة عند منوّر خذها لتوصلها إلى أحد الأصدقاء”، وفعلا ذهبت في اليوم الثّاني إلى منوّر، وهو شاب لطيف وبصحة جيّدة، إلا أنني تفاجئت قبل أسبوعين من اليوم أنّ منوّر توفي بسبب كورونا في عمان، فلعلّ هذا أثر نفسيّا على الأستاذ صادق، فقد كان بمثابة ابنه في عمان!!

تواصلنا بالهاتف وسلّمت عليه، وقبل شهر أرسل لي هذه الرّسالة:

“العزيز الشيح بدر بن سالم:

سلام عليك ودمت بخير.

ها قد مضى أسبوع على قدومي إلى الهند والأمور كما خططت لإقامتي هنا سالكة بشكل مرض:  السكن مريح ومتيح المشي تردادا عبر طوله الممتد عشرين مترا، كما أن رعاية أسرة ابن أخي (منور)، المقيمة على الطابق الثاني من البناية، كريمة بامتياز في تلبية جميع احتياجاتي الحياتية.

لم أخرج من المنزل حتى الآن، ولم يطرأ بعد ما يستدعي الخروج.  كان علي أن أجري بعض فحوص الدم تمهيدا لزيارة الطبيب بعد أسبوع، لكن هذا تيسر باستدعاء ممرض للمنزل لسحب الدم وإجراء الفحوص في مختبر قريب.

موسم الأمطار قد بدأ، لكنه في مدينتنا (بلغاوي) بولاية (كرناتكا) الجنوبية ليس بعد بالغزارة التي عهدتها في زيارات سابقة.  إنما السماء غائمة طوال الوقت والمؤمل أن يجود الغيث كالمعهود عما قريب.

معظم الوقت أقضيه في خلوة مع النفس، بين تأمل وقراءة وكتابة ومتابعة للأحداث.  أحيانا يخطر أنني قد حظيت بعناية كونية تتيح لي التمهل في وتيرة الحياة، وتفسح لي فرصة تعريض النظر ما أمكن في طبيعة هذا الوجود، عبر هذه المرحلة الأخيرة قبل الوفاة.

بصدد الكتابة رأيت أن أكنب في أريعة موضوعات خلال إقامتي هنا، وهي: 1) العقل المؤمن،  2) القوي الأمين،  3) المسؤول والمساءلة  4) مراحل الحياة… وأرجو أن أوفق في إنجاز هذا أو جله حتى موعد العودة إلى الوطن أوائل نوفمبر المقبل.

مودتي وتقديري لك ولجميع الأصدقاء، مع الدعاء بالتوفيق في جميع الأمور.

صادق حواد سليمان”

وقبل أسبوعين كانت رسالته الأخيرة لي، وهو آخر حديث بيننا:

“العزيز الشيخ بدر سالم العبري:

السلام عليك وعلى جميع أصدقائنا الأعزاء. أعتذر لانقطاعي في التواصل معكم، وذلك لانصرافي إلى سلسلة من المراجعات الطبية انتهت اليوم، غير فحص للعيون مقرر بعد أسبوعين.

قرأت مقالك في الفلق فما رأيت غير نقل أمين وشرح مختصر سليم.  أبارك لك سعة صدرك وعرض أفقك وأنت بعدك في مطالع حراكك المعرفي أتمنى باستطراده أن تبلغ شأوا مشهودا في الوطن وسائرالعالم العربي الإسلامي.

أخيرا شكرا على كل ما لقيت منكم دائما من محبة ورعاية.  مكررا، سلامي للجميع.

صادق جواد”.

فكان ردّي له وآخر حديث معه:

“السّلام عليكم ورحمة الله أستاذي الكريم المفكر صادق جواد،،

سعيد برسالتك، ونعتذر عن عدم مراسلتك، حيث لم نحب إزعاجك في خلوتك، وشغلك في تأملك، وصرفك عن غايتك.

وسعيدون بما ابلغتنا به في رسالتك من نتائج طبيّة جيدة، ونرجو لك دوام الصّحة والعافية.

كما نرغب متى سمح وقتك أن نتحدث عفويّا على zoom، في جلسة عفويّة ندعو لها بعض محبيك للسّلام وحديث أخوي سريع.

وسعيد بمشاعرك حول المقال، وما أنا فيه إلا ناقل، والفضل لك سلفا، ولقي قبولا جيّدا في داخل وخارج عمان والحمد لله.

وهنا جميع الأخوة: كمال اللّواتي، وخميس العدوي، وزهران العبري، ومعمّر التّوبي، وحسن المطروشي، وإبراهيم الصّلتي، وأحمد الحارثي، والوضاح الهاشمي، وجمعة اللّواتي، وسعيد الهاشمي، وغيرهم يخصونك بالسّلام.

محبّك بدر العبري”.

وفي بداية هذا الأسبوع تفاجئت بخبر الأستاذ كمال اللّواتي بأنّ الأستاذ صادق في العناية المركزة، وحالته حرجة جدّا، بسبب مرض سابق عانى منه في الرّئتين Pneumonia، ولا يستطيع التّنفس إلا بالجهاز، ثمّ تواصلت مع الأستاذ كمال قبل يومين، وقلت مستعدّ للسّفر إلى الهند لخدمة الأستاذ صادق، فردّ عليّ شاكرا أنّ هناك من يقوم بخدمته، وقال لي حاليا لا يعطون تراخيص السّفر إلى الهند بسبب الجائحة.

لأتفاجأ صباح الثّلاثاء 27 يوليو 2021م بوفاته، وكان يوما مظلما، فرغم العلاقة القصيرة معه إلا أننا عشنا أياما وساعات، فلا يمر أسبوع إلا ونلتقي حضوريّا أو هاتفيّا، فذهابه أحدث فينا فراغا ليس من السّهل تعويضه، كما أنّه خسارة للفكر والفلسفة، وكان لي أمل أن أكمل معه ثلاثة مشاريع، وقد بدأت إعدادها: عن سنّة الاقتضاء، والدّستور والسّلطة، ومذكراته، ولكن هذا قدر الله، ولا رادّ لأمره، ولكل أجل كتاب، ورحمه الله ورضي عنه، والحمد لله على كلّ حال.

السابق
الأضحية ومقتضى دائرة الإلزام في الخطاب
التالي
العقل السّياسي الدّيني الإسلامي وما بعد الإمامة والخلافة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً