كتبت كمطوية لدائرة البحوث الإسلاميّة بوزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة، 1443هـ/ 2022م
لماذا القراءة؟
القراءة هي كشف الذّات والوجود، وكلاهما متلازمان، فكشف الوجود كشف للذّات، وكشف الذّات كشف للوجود، وفي القرآن الكريم: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذّاريات: 20 – 21]، فالتفت بعد آيات الأرض [الوجود] إلى آيات النّفس [الذّات]، ومن مصاديق هذا قول عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ]:
أتحسب أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ
والله تعالى أمر بالسّير في الأرض: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20]، والسّير بالأرض إمّا بالتّأمل أو الكشف، وكلاهما بقراءة الكون المنظور عن طريق البحث والتّأمل، أو بقراءة الكون المسطور عن طريق ما كتبه ودوّنه المتقدّمون والمعاصرون، فالقراءة سير في الأرض أيضا.
لهذا نجد أول خطاب تكليفيّ للنّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – حسب المشهور: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [اقرأ: 1 – 5]، والقراءة أيضا هنا تشمل المنظور تأملا، والمسطور تدوينا، والثّاني مهم أيضا، ولهذا أشار إلى القلم، وبه يُحفظ نتاج الإنسان، وتتعاقب به المعارف، وتتدافع وتتهذّب في المجتمع الإنسانيّ.
ما البناء الحضاريّ؟
توجد مفردتان إذا ذكر أحدهما ذكر الآخر، الأولى “الثّقافة”، والثّانية “الحضارة”، فلا حضارة بدون ثقافة، ولا تهذّب للثّقافة بعيدا عن الحضارة، والحضارة ارتباطها بالإنسان عقلا وعلما وكشفا وسننا، والثّقافة ترتبط بالهويّة الإنسانيّة، فهناك الهويّة العرقيّة والدّينيّة والمذهبيّة وهوّيّة العادات والتّقاليد والأعراف، ولهذا الثّقافات تتعدد وتتدافع وتتهذّب، ولا يمكن تحقق ذلك بمعزل عن الحضارة، ومن هذا قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الرّوم/ 22]، فالآيات السّننيّة في الكون كشفها والانطلاقة منها مرتبط بالحضارة، واختلاف الألسن (الاختلاف الكسبيّ)، واختلاف الألوان (الاختلاف التّكوينيّ) كلاهما مؤثر على الثّقافة، والثّقافة إذا فهمت من خلال الحضارة تهذّبت، وإذا قرأت بعيدا عن الحضارة كان الصّراع العرقيّ والأثنيّ والدّينيّ مثلا، وهنا يكمن البناء الحضاريّ، أي من خلال تهذيب الثّقافات وتسخيرها إيجابا في بناء الإنسان والحضارة.
ويضرب القرآن مثلا للبناء الحضاريّ من خلال قصّة شعيب – عليه السّلام – في مديْن حيث يقول: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85]، فهنا حثّ على استعمار الأرض من خلال العدل والصّدق { فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}، وهي من قيم الحضارة؛ لأنّ ارتفاعها يعني الظّلم {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، وبالتّالي تحقق الفساد والفوضى من سرقة ورشوة وقتل وحروب أهليّة والمؤديّة إلى إفساد الأرض بعد صلاحها، وخراب البيت بعد حسن بنائه {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}.
القراءة من خلال الحضارة:
لهذا لا حضارة بدون قراءة، فلا يمكن تحقّق ذلك بحال، حيث الحضارة تقوم على قيم الوجود، وقيم الإنسان الكبرى، وقيم الوجود يعني كشف سننه ونواميسه، واستثماره في إصلاح الأرض واستعمارها أولا، وفي خدمة الجنس البشريّ، المتمثل في محاكاة هذه السّنن إلى أدوات تخدم الجنس البشريّ، فاستطاع الإنسان بمحاكاته للطّيور صنع الطّائرات، ولبعض الدّواب صنع السّيارات، وهذا لم يحدث دون كشف لسنن الكون، فسخّر ذلك في صنع الهواتف والتّلفزة والطّباعة وغيرها كثير.
ثمّ إنّ هذا لم يحدث دفعة واحدة بعيدا عن “سنّة الاقتضاء”، أي لم نصل اليوم إلى هذه الحضارة الّتي نقلت الجنس البشريّ إلى عالم أكثر يسرا بحياته من العوالم الماضية؛ لم نصل إليها دفعة واحدة، ولم تنزل من السّماء أو تخرج من الأرض صدفة هكذا؛ بل نتيجة تدافع وسير في الأرض منذ الحضارات الأولى، حيث حاول الإنسان كشف ومحاكاة ما ييسر حياته، ويضفي إليها جمالا بعد يسر، فكشف ما يستر عورته، وطوّره إلى ما يزيده جمالا في اللّباس والرّياش، وهكذا كشف أدوات فلاحته وطبخه وصناعته وبنائه لبيته وجسوره وتنظيم طرقه ومعاشه، كلّ حضارة تدفع للأخرى اقتضاء وفق قدراتها وسننها، إلى أن دفعت بالحضارة المعاصرة دفعا، جعلتها أكثر تقدّما ورقيّا ويسرا، وهذا لم يحدث إلا من خلال القراءة المبنيّة على تراث الحضارات السّالفة، ثمّ السّير في الأرض وقراءة سننها وكشفها.
وأمّا قيم الإنسان الكبرى، فتتمثل في المشترك في الجنس البشريّ من حيث ماهيّة الوجود، وهي الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الرّوم: 30]، فالنّاس خلقوا سواء من حيث الأصالة، لا يفترقون تكوينا ماهيّا، وما اختلاف ألوانهم وأنواعهم وأجناسهم إلا آية لتحقق كرامة الجنس البشريّ جميعا، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، لهذا كانت القراءة مهمّة لإنزال هذه القيم إلى مصاديق تخدم الإنسان، وتحقّق كرامته من مساواة وعدل وحريّة ورفع ظلم، ومنع لاستبداد، ومحاربة لفقر وقتل وبطش وطيش في الأرض، ولا يتحقق ذلك إلا بقراءة قيم الجنس البشري، وهو الجناح الثّانيّ – كما أسلفنا – في البناء الحضاريّ بعد قيم الوجود، وكلاهما متعلّق تحقّقا بالقراءة.
القراءة وتهذيب الثّقافة:
إذا كانت الحضارة لها ارتباط بالسّنن والعقل والسّير والكشف، إلا أنّها – كما أسلفنا – تفرز ثقافات متباينة، هذه الثّقافات منها يضرّ سير الحضارة، كانت عادات أو تقاليد أو أعراف، أيّا كان تشكلاتها، فالشّجاعة قيمة حضاريّة مضافة، إلا أنّ الثّأر وقتل الآخر واغتصاب البلدان وتهجير الشّعوب عادات جاهليّة لا تتوافق وقيمة الشّجاعة، وكما أنّ قيمة الكرم قيمة حضاريّة مضافة أيضا، إلا أنّ السّرف وأكل أموال النّاس بالباطل والطّبقيّة والمباهاة لا يتوافق وقيمة الكرم، وهكذا القيم الأخرى كانت مطلقة كالعدل أي تعمّ الجنس البشريّ من حيث الأصالة، أو مضافة يكتسبها الإنسان كالعلم، فقد يوجد من المصاديق والنّماذج من عادات وتقاليد وأعراف تكون عائقا سلبيّا في تحقّق وجودها إيجابا، ومن هنا يأتي أهميّة القراءة، أي قراءة هذه الثّقافات إمّا قراءة نقديّة تصحيحيّة بعيدا عن تعصّب وجمود {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزّخرف: 23]، أو قراءة تصديقيّة للحسَن مع المحافظة عليه {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، فقراءة الثّقافة تدور بين التّهذيب والتّصديق.
كيف أساهم في تحقّق البناء الحضاريّ قرائيّا؟
إذا كان المجتمع الإنسانيّ جميعا مطالبا في توفير مناخ القراءة للكلّ، بحيث تحقّق العدالة في التّعليم والبحث والسّير، ومحاربة الأميّة والجهل، وجعل الدّول القطريّة حافظة له، مستغلّة للطّاقات البشريّة من خلال مواطنيها، إلا أنّه على الأفراد أيضا أن يساهموا في تحقّق ذلك من خلال:
- تنمية جانب الإبداع لدى الفرد، أيّا كان هذا الإبداع، علميّا بحثيّا، أم سيرا كشفيّا، أم اختراعا عمليّا، أم كان في الفنّ والتّجارة والزّراعة والاقتصاد والتّأليف والتّرجمة والتّصميم والرّياضة، وجميع مناحي الحياة.
- المشاركة الذّاتيّة في بناء الحضارة قرائيّا، ومعرفة ما وصلت إليه، والبناء عليه، كلّ حسب تخصّصه وقدراته، فالحضارة لا حدود إبداعيّة لها، وليست ملكا لأمّة دون أمّة، فهي مشاعة سننيّة بين الكلّ.
- المشاركة الذّاتيّة في تهذيب الثّقافة قرائيّا، والدّفع بها في تنمية الحضارة، والأمم الّتي لا تهذّب ثقافتها لن تستطيع مجاوزة يومها إلى غدها، لتجمد على واقعها، وقد تتسلى بمآثر ماضيها، وعوالم أخرى قد تقدّمتها بفترات زمنيّة طويلة، لهذا التّهذيب ضرورة، الجميعُ يعمل عليه حسب قدراته.
- المساهمة في تحقّق ذلك من خلال العمل المدنيّ المتمثل في المراكز والجمعيّات الأهليّة والتّطوعيّة، بما يحقّق البعد القرائيّ في المجتمع للواقع من جهة، وللجيل الجديد من جهة أخرى، لتساهم هذه الأمّة كغيرها في تحقّق البناء الحضاريّ في المجتمع الإنسانيّ.