خطبة الجمعة اليوم تعتبر أكثر ضجيجا على الساحة الإعلامية والنقدية، بما فيها من ركني الخطيب وموضوع الخطبة، وقبل التطرق إلى تطوير هذين الركنين نقف قليلا مع الوقفة التأريخية والمعاصرة للخطبة لكي نعرف السبب فيتضح العلاج.
حيث يعتبر إعلاميا أن خطبة الجمعة من أكثر المشاكل التي تواجهها الحكومات في العالم الإسلامي والعربي خصوصا، وتُعتبر من الأخطار الكبرى التي يحسب لها الأمن في كلّ دوله حسابه، وذلك لسبب بسيط لأنّ خطبة الجمعة إذا انحرفت عن هدفها، وتشكلت في خطاب تكفيري كما يحدث مثلا في بعض البلاد العربية، هذه ستجعل البلاد بلاقع من الخلاف والتمزق، نهايتها الحروب وسفك الدم، لأنّ المتلقي عندما يحضر فارغا يعتبر ما يمليه الخطيب هو كلام الله وشريعته مائة بالمائة …
وفي المقابل أيضا إذا أميتت الخطبة وفقدت روحها المعاصر، ستتحول إلى طقس لا فائدة منه إلا قضاء بعض الوقت خارج البيت والعمل!!
فلو ألقينا نظرة بين منبرين، منبر التلفاز المحلي في كل دولة في عالم الفضائيات وكثرة القنوات، وبين منبر خطبة الجمعة؛ لن نجد مقارنة أبدا من حيث التأثير والحضور، فالتلفاز المحلي قد لا يصل عدد متابعيه في الوقت الواحد إلا إذا كان حدثا عارضا وهو قليل عن ثلاثين بالمائة تقريبا؛ بل قد يكون أقل بكثير!!!
بينما خطبة الجمعة فعدد متابعيها لا يقل عن ستين بالمائة على الأقل وهو أسبوعي وفي أقل من ساعة ….
وفي عهد الرسول الأكرم عليه الصلاة والسّلام لم تكن تقام الجمعة بهذه الصورة، ففي عهده فقط كانت تقام في مسجده، وأقيمت قليلا في إحدى مناطق البحرين، بل حتى مكة – على الظاهر – لم تقم فيها، وكانت الخطبة في جملتها مقتصرة على القرآن، لذا المحدثون أنفسهم لم يجدوا ما ينسبونه لخطبه عليه السلام إلا عدة مرويات بجانب كثرة جُمَع الأسابيع التي خطبها عليه السلام كما هو مشهور،،،
وعلى هذا جرت السنة العملية حتى جاء عمر ت 23هـ ووضعها فقط في الأمصار، ثم تعددت لغرض سياسي بحت لأجل الدعاء للخليفة، ثم التعددية أصبحت السمة الغالبة في العالم الإسلامي ومنها عمان بطبيعة الحال[1].
وعليه لجأت بعض الدول ومنها عمان إلى توحيد خطبة الجمعة، وذلك لأنه إذا فتحت على مصراعيها، خاصة في الدول ذات التعدد المذهبي والفكري ربما يحدث ما لا يحمد عقباه، لأنّه ليس الجميع على مستوى واحد، فكما أنّ هناك المعتدل هناك المتعصب، وكما أنه أيضا يوجد المنفتح يوجد المتشدد، وهذا طبيعي، فإما أن تفتح للجميع، وإمّا تغلق على الجميع …
وعليه اتجهت بعض الوزارات إلى المنع مطلقا، وأن ينطلق الخطاب منها، ولكن هل هذا هو الحل؟
يشتكي العديد من الناس أن الخطب أصبحت مطاطية، وذات جمل إنشائية طويلة، ففقدت الروح في غالبها، وهنا حدث الخلل الأول؟!!!
وعليه أصبحت شبه قاعدة، فمن كانت خطبته مؤثرة قيل له هذه ليست خطبة الوزارة ولو كانت من خطب الوزارة، ومن كانت خطبته غير مؤثرة قيل له هذه خطبة الوزارة ولو كانت منقولة من الشبكة العالمية!!!
وعليه بعض الخطباء اتجهوا إلى ثلاثة طرق: الأول أن يخطب ارتجاليا وهم قلة، والثاني أن يكتب الخطبة بنفسه وهؤلاء قلة أيضا، والرابع البحث ولو من الشبكة العالمية عن خطب أخرى وهذه لها سلبياتها، وهؤلاء ليسوا بقلة، بقي رابع من بقي يخطب خطب الوزارة[2]!!!
وقد لا نلوم الخطيب عندما يتجه إلى البحث أو كتابة الخطبة، لأنه هو في الواجهة، وطبيعته يسعى إلى التأثير ومسايرة الواقع، فسيبحث عن خطب مؤثرة تجعل له مكانة بين المستمعين، وهذه طبيعة ظاهرة …
بعد هذه الظاهرة نحن أمام تحدي إعلامي يحمل سلاحا ذا حدين، وما دمنا بصراحة أردنا تعميم الخطبة، فعندنا كما أسلفنا في أول المقال ركنين: الخطبة والخطيب، وخطبة الجمعة ليست أقل من التلفاز إن لم تكن أقوى إعلاميا وتأثيرا من حيث الحضور، والانطلاق باسم الله والغيب.
وعليه أول العلاج في نظري إعداد هيئة أو على الأقل دائرة خاصة بالخطب والخطباء، ولها مراكزها التي تشتغل على إعداد الخطب، وقسم التنمية والتدريب والتوجيه للخطباء، وقسم ثالث للنقد وتنمية الذات.
فالقسم الأول يتكون من الباحثين الشرعيين والتربويين واللغويين والبرمجة وعلماء الاقتصاد والقانون ومنهم الإداريون والطباعون، ويفتح لهم الحرية وفق القانون العام في إعداد خطب متنوعة، وتساير العام ومناسباته، وتعالج القضايا الاجتماعية والاقتصادية ومشاكل الناس، وتعيش مع الأمة وهمومها، وتفعل جانب المعرفة وتنمية الذات، وتقدم حلولا، وتعطي الكلمة للقضايا والأحداث المستجدة، وفق القانون والرأي الجامع، وتطور قدراتها وفق أبحاث ميدانية لتقييم رأي الناس من أجل تطوير ذاتها، حيث تكون الخطب أيضا مكتوبة بأسلوب جامع بين العقل والعاطفة، وبين الخبر والإنشاء، ليكون مؤثرا في السامع.
وأما القسم الثاني فهو قسم التنمية والتدريب والتوجيه، إذ أن دور الهيئة أو الإدارة لا يتوقف عند توفير الخطب؛ بل لابد من إعداد الخطيب ذاته، ومعالجة الذي يعاني من إشكالات خطابية ولغوية، وهذا لا يكون في ملتقى سريع لمدة ثلاثة أيام، بل هذه الأموال تصرف في إعداد مركز يعد الخطيب ويبرمجه خطابيا طول العام…
وفي الوقت نفسه تكون العلاقة بين القسمين علاقة خدمية للمجتمع ككل، وتكون أيضا مرنة، فيمكن تنمية من يخطب ارتجاليا، أو يعد خطبته بنفسه، وفي حالة الخطأ يكون الحوار، وإذا تكرر كان العقاب وفق قانون مقنن، لا وفق استعلاء، وتصفية حسابات، أو إظهار عضلات، فالوطن هو الحاكم بين الجميع.
ثم يأتي الدور الثالث وهو دور نقد الذات، وإعداد الأبحاث الناقدة للذات والمنمية له، ليكون العمل يجمع بين المرونة والقانون، ويعايش الواقع، وينقل المجتمع نقلة نوعية في فكره وسبل معرفته.
وبهذا نعالج خطبة الجمعة، أما الاستمرار على الوضع الراهن قد يكون أثره مستقبلا سلبيا إن لم يعالج بشكل جذري.
ووفق هذا الحال المعاش ينبغي أيضا للخطيب أن يعلم هذه أمانة وكل بها، ومسؤولية أؤتمن عليها، فهي رسالة قبل أن تكون وظيفة، فعليه أن يرقى بذاته، وأن يتقبل نصح الناس له، وأن يطور من قدراته، ولا ينتظر من الآخر أن يطوره.
ولا بأس أن يطلب من الناس نقده وتوجيهه، وتطوير الذات إما أن يكون بالقراءة والاطلاح في الكتب المختصة بهذا، أو بالدخول في دورات عملية.
ثم لا يصح أن يطلع على الخطبة عند الصعود، لأنه يخطب بعقل الباطن لغيره، لا بعقله الباطني هو، وهذا يحتاج منه أن يقرأها مليا، وأن يتعود على ذلك، خاصة في الكلمات الغريبة على عقلة الباطني، وربما تصيبه بالتلعثم، أو عدم القدرة على المواصلة، فيحدث له حرج أمام الناس، فيؤثر على نفسيته مستقبلا.
كذلك بالقراءة يستطيع تقسيم صوته من حيث وقت الرفع، ووقت الحفظ أو ما بينهما، أو يحول بعض الجمل الخبرية إلى إنشائية من استفهام أو تعجب أو مدح أو ذم، أو العكس، وهذا يحتاج منه أن يطلع على الخطبة بوقت أطول، وبلا شك هذا سيطور من قدراته ويرقى بذاته، ويؤدي هذه الرسالة على الوجه الأكمل، ليجد الرضا في قلوب الناس، ويسأل الله تعالى المغفرة والرضا في العقبى.
فيسبوك 1436هـ/ 2016م
[1] جرى العمل عند الإباضيّة أن تكون الجمعة مرتبطة بالمصر والإمام، حيث يقيمها الإمام أو السّلطان العادل بنفسه، أو يحضرها أو من ينوب عنه، وكانت تقام في عمان في صحار ثمّ نزوى بشكل مستمر، وإن أقيمت بشكل منقطع في أماكن أخرى كما يبدو، مثل إقامتها في جعلان من قبل الإمام محمّد بن عبد الله الخليليّ [ت 1373هـ]، إلا أنّه بدأ العمل بتعميمها في قرارة الجزائر ولو مع عدم وجود الإمام مع الشّيخ بيوض عمر بن إبراهيم [ت 1981هـ]، حيث رجح بداية سنيتها ثمّ مال إلى الإلزام، وفي عمان عممت في عهد السّلطان قابوس عملا بما رجحه سماحة المفتي الشّيخ أحمد بن حمد الخليليّ، وهو المعمول به اليوم، كما أنّهم رجحوا – أي بيوض والخليليّ – أن تكون بخطبتين خلاف مشهور المذهب الإباضيّ، ومع هذا لا يزال الرّأي الأول في المسألتين موجودا وحاضرا ولو ترجيحا خصوصا مع بعض الفقهاء الكبار في السّن.
للمزيد ينظر مقالنا: التّواصل الجزائريّ العمانيّ من خلال الحركة الإصلاحيّة البيوضيّة، منشور في مجلّة الحياة الجزائريّة، عدد (24) رمضان 1440هـ/ جوان 2019م، ص: 117 – 127.
[2] تغير نوعا ما الحال الآن، وعليه يقرأ المقال في ظرفيه كتابته.