المحاضرة في جامعة المصطفى (ص)[1]
بدعوة كريمة من سماحة الشّيخ العلامة نجف علي الميرزائيّ لإلقاء محاضرة عن التّقريب بين المدارس الإسلاميّة في سلطنة عمان، أرسل لي بذلك أستاذي أبو يوسف كمال بن حسن اللّواتيّ من ضمن الزّيارة العلميّة لقم في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، حيث قام الأستاذ كمال بالتّنسيق معي ومع الميرزائيّ، فاقترح الأخير إقامة محاضرة، واقترح لها عنوانين، عنوانا عن المدارس الدّينيّة في عمان، وعنوانا عن تجربة التّقريب في المجتمع العمانيّ، فأخبرته الأفضل نتحدث عن تجربة التّسامح الفقهيّ في عمان لكوني كتبت بحثا في ذلك.
وقد حُجِزتْ تذكرة الطّائرة يوم الثّلاثاء 21/2/2017، على أن يكون الإقلاع السّاعة الثّانيّة ظهرا حسب التّذكرة، فالتقينا في المطار السّاعة الثّانيّة عشر ظهرا، فخلّصنا الإجراءات، فقال لي الأستاذ كمال نذهب إلى مقهى واستراحة رجال الأعمال بالمطار؛ وفجأة جاءنا أحد الأخوة من ظفار، ودخل فجأة في حوار سياسيّ، وأردنا البعد عن هذا الجانب فدخل في حوار اقتصاديّ ودينيّ ومذهبيّ، وقلت للأستاذ كمال: اقترب الوقت، فنظر إلى مذكرة الصّعود فتصور بالخطأ الطّائرة الثّانية والنّصف، عموما قبل الثّانية ذهبنا إلى الصّلاة، وصلينا الظّهر والعصر أربعا أربعا، لكوننا لا زلنا في الوطن، فذهبنا إلى القاعة الثّانية بالضّبط، وقالوا لنا الطّائرة أقلعت!!!
هنا تواصل الأستاذ كمال مع الطّيران، وتمّ تغيير الحجز إلى الواحدة والثّلث ليلا، فرجعنا إلى بيوتنا، ثمّ رجعنا اللّيل، وجلسنا في قاعة الانتظار، حتى جاء موعد الصّعود، وكانت الطّائرة شبه فاضية!!!
ثمّ التحق بنا الأستاذ أبو عمار نبيل محمد من دولة الكويت الشّقيقة ليرافقنا في السّفر، وهو رجل مثقف، وعنده تساؤلات كبيرة، وكان الأستاذان كمال ونبيل من المدرسة الإماميّة، بينما أنا نسبا من المدرسة الإباضيّة!!
وصلنا طهران السّاعة الثّالثة بتوقيتهم، ونحن نتقدم عنهم بنصف ساعة، وهنا لم تصل حقيبة الأستاذ نبيل فتأخرنا قليلا في المطار، وبعد التّواصل وصلت الفندق بعد يوم!!!
كان السّائق ينتظرنا في ساحة المطار، ودرجة الحرارة عندهم درجتان، إلا أنّ البرد لم يكن مؤذيا، وبسهولة تتكيف معه!!
وصلنا قم السّاعة السّادسة فجرا، وكان الفندق معدا مسبقا، وبالسّرعة صلينا الفجر لأنّ الشّروق اقترب، ومن التّعب أخذنا النّوم، وكانت المحاضرة السّاعة العاشرة، فإذا بالسّائق المعد من الجامعة يضرب هاتف الغرفة عند العاشرة!!
وبسرعة تجهزنا دون أن نفطر، فوصلنا الجامعة، فاستقبلنا المعد لبرنامج معهد الدّراسات الإقليميّة لجامعة المصطفى الأستاذ أشرفيّ، وبعدها جاء سماحة الشّيخ العلامة الميرزائيّ، وهو رجل كاتب ومعروف، وله لقاءات ثقافيّة وفكريّة وسياسيّة، كما له بعض المؤلفات مثل مطارحات في منهجيّة الإصلاح والتّغيير، وفلسفة مرجعيّة القرآن المعرفيّة، وأكثر من مائة وخمسين مقالا بالعربيّة والفارسيّة.
دخلنا في قاعة حضرها العديد من العلماء والأساتذة والدّكاترة، وبدأ المقدّم بالتّعريف بي وبسماحته وبالحضور، ثمّ بدأ سماحته بالحديث عن الوحدة وضرورتها والتّقريب بين المدارس الإسلاميّة، وبعد عشرين دقيقة جاء دوري فتحدثت عن التّقريب والوحدة، والتّسامح في عمان وتحدثت عن ضرورة نقد الذّات والتّركيز على المشتركات، وأنسنة الخطاب الدّينيّ، ومراجعة التّأريخ، وترك الخلق للخالق، ومراجعة مفهوم اللّعن والولاية والبراءة والتّكفير والتّفسيق المذهبيّ، وأهمية التّعارف والتّواصل والحوار.
ثمّ حدث نقاش كبير استمر لفترة طويلة، لما طرح من قبل سماحته ومن قبلي، ويرتكز في غالبه في أهمية الحوار والتّعارف.
وبعد المحاضرة حدث تعارف جانبيّ، ومنها أخذني أحد الحضور وقال تعجبت من رجل دين يتحدث عن أنسنة المذاهب، قلت له أقصد أن يكون هدف المذاهب صناعة الإنسان لا جعل الإنسان يعيش في صراع طائفيّ ومذهبيّ، فهو بحاجة إلى البناء لا التّفرق والهدم!!
وبعدها طلب منا معدّ البرنامج مرافقته لشرب الشّاي في مكتب سماحة الشّيخ، فذهبنا وحدث حوار عام في ضرورة التّقريب والتّعايش، ثمّ التحق بنا سماحة الشّيخ الميرزائيّ، وتحدث بصراحة عن ضرورة المراجعة في الفكر الشّيعيّ، وأهميّة المراجعة القرآنيّة، حيث سماحته عنده مشروع في الانطلاقة القرآنيّة بين الأمّة، وله كتب ومقالات في هذا، وأسهب الحديث في قضية العصمة واللَعن والتّأريخ والمنطلقات القرآنيّة، كذلك أخذ حديث السّيد كمال الحيدريّ حيزا؛ لأنّه كما يقول سماحته فجّر في المجتمع الشّيعيّ قنابل لا زالت شظاياها مستمرة، وعموما السّيد كمال كان حديث المجالس في كلّ زيارة و مجلس!!
بعدها أذن للصّلاة، وعندهم قبل الأذان يبدأ المؤذن بقراءة القرآن، وهنا ترى الجامعة في هرج، الجميع يذهب إلى الدّورات للاستعداد للصّلاة، وهنا توضأنا، ثمّ ذهبنا مرة أخرى إلى مكتب سماحته، وطلب مني أن أصلي بهم إماما، فرفضت، وأصر كثيرا، إلا أنّي رفضت لكوني ضيفا، ولا أعرف عادتهم في ذلك.
فصلّى بنا سماحته الظّهر، وكانوا يقرأون في الرّكعتين الأوليتين الفاتحة وسورة كغالب المذاهب السّنيّة، ويرفعون أيديهم ولا يضمون، ويقولون في الرّكوع سبحان ربي العظيم وبحمده مرة واحدة، وفي السّجود سبحان ربي الأعلى وبحمده مرة واحدة، ويقنتون في الركعة الثّانية قبل الرّكوع، ويكتفون بآية ربنا آتنا في الدنيا … الخ الآية أو أي دعاء قصير ثمّ يختمون بالصّلاة على محمد وآله، وصلاتهم كانت خفيفة وذات خشوع وهدوء، ويسلمون دون تحريك الرأس وإنّما يضربون أيديهم إعلاما بالخروج من الصّلاة مع التّكبير، ويسجدون على التّربة، وعموما جميع هذه الآراء موجودة في المدارس الإسلاميّة ليس الآن مجال تفصيلها، فالسّجود في التّربة مثلا يماثله الخلاف القديم هل يجوز السّجود على شيء مسته النّار، وعدم الحركة في التّسليم يماثله القول بجواز الإتيان بأيّ فعل للخروج من الصّلاة، والحركة في التّسليم ليس شرطا وإنّما سنة مستحبة عند الأكثر!!
وبعد الصّلاة تصورت سيجمعون إلا أنّ سماحته لم يجمع وإنّما فرد الظّهر وهذا خلاف المعتاد عندهم، وهنا صليت العصر ركعتين، أمّا من معي من الأخوة من المدرسة الإماميّة يسلّمون بعد الرّكعتين، ثّم ينوون الرّكعتين التّاليتين العصر، وهو ما يفعله الآن الأخوة في المدرسة الحنبليّة!!
بعد الصّلاة أصرّ سماحته أن نشاركه في الغداء، فذهبنا إلى مطعم شعبيّ كبير، وكان مزدحما بالنّاس، وجلسنا إلى الرّابعة عصرا وكان نقاشا مطولا في جوانب كثيرة.
وهنا قال سماحته أنّ مؤسسة بين الملليّ للدّراسات الإسلاميّة وهو مركز تابع لسماحة السّيد القائد آية الله الخامنائيّ مباشرة يديره مستشاره في قم سماحة الشّيخ الشّماليّ يطلب عقد جلسة حواريّة مفتوحة، فهل يوجد لديكم وقت صباح الغد أي الأربعاء فقلنا نعم، على أن تكون الجلسة السّاعة العاشرة صباحا.
وعندما أردنا الخروج من الغداء قام سماحته بتجميع الأكل المتبقي وغير الممسوس وفرزه ليحمله إلى المحتاج والفقير، ثمّ قال لنا سيارتي قريبة سأحملكم بنفسي، فرفض الأخوة، وقال أجرة صاحب الأجرة عليّ أو أحملكم، فرفض الأخوة بقوة الأمرين، وتفارقنا، فعدنا إلى النّزل لنستعد لزيارة ضريح فاطمة المعصومة بنت الإمام الكاظم.
زيارة ضريح فاطمة المعصومة
بعد تناول الغداء مع سماحة العلامة نجف الميرزائيّ رجعنا إلى النّزل لنأخذ شيئا من الاستحمام والرّاحة، ولنصلي المغرب والعشاء.
بعدها ذهبنا لزيارة ضريح فاطمة المعصومة بنت الإمام الكاظم وأخت الإمام الرّضا، وقد سألتُ الخطيب الحسينيّ محمد الشّوكيّ في زيارتنا له كما سيأتي ذكره لاحقا لماذا سميت بالمعصومة، قال المعصومة بالإيرانيّة معنى البراءة وليست العصمة، فيقولون للطّفل معصوما بمعنى بريئا، ولكون فاطمة توفيت حسب المشهور وعمرها ثمانية عشر سنة، حيث أتت من المدينة وتوفيت هنا لوجود جماعة من العرب كبيرة بقم، وفرارا من الاضطهاد العباسيّ، إلا أنّ السّيد يرجح أنّها توفيت بين 25 إلى 30 سنة، وأتى بشاهد روائيّ في ذلك لا يحضرني الآن ذكره.
ونحن نمشي ودرجة الحرارة تقريبا درجتان تجد البائعين منتشرين يبيعون الفول أو الطّعميّة الطّبيعيّ ويضيفون إليها الفلفل والملح، وهي أكلة لذيذة مع البرد الشّديد.
والنّاس في هدوء شديد جدا وسكينة غريبة، على كثرة الزّحام لا تسمع ضجيج السّيارات، ولا أصوات النّاس، دخلنا في بداية (الحرم) حيث يسمونه بالحرم، والجنديّ المفتش يبتسم ويضحك لكلّ من يفتشه.
وصلنا خارج الحرم وكان المكان واسعا ومضيئا، وفيه أكياس خاصة للحذاء، تأخذها وترجعها في نفس المكان.
وفي داخل المبنى تجد الضّريح في مكان مليء بالنّقوش والزّخرفة، والنّاس يتحلقون حول الضّريح يدعون ويتوسلون، وبطبيعة الحال نحن في المدرسة الإباضيّة لا يوجد عندنا التّوسل بالأموات كما هو المشهور.
وعلى القاعات الجانبيّة للحرم هناك قبور كثيرة لعلماء الإماميّة خاصة بعد الثّورة الإيرانيّة، والنّاس ما بين مصلي ويدعو ويقرأ القرآن، وتوجد حلقات حوزويّة أغلبها على عادة الإجازة في قراءة كتاب، وحفظ القرآن، كما في الحرم المكيّ والمدنيّ.
وكنت جالسا أقرأ بعض ما كتب على القبر جاءني فتى في عمر الثّامنة عشرة كما أخبرني، ومعه ولدان في عمره أو أقل قليلا، قال السّلام عليكم، فرددت عليه السّلام، وكان معي الأستاذ كمال، قال أنا أتحدث العربيّة، وأنا من الأهواز، وصاحباي من هنا يتحدثان فقط الفارسيّة، وأحببنا أن نسلّم عليكم، فسألته هل تدرس هنا قال لا، أعمل لظروف ماديّة، حيث أعمل في تصليح السّيارات، ثمّ قلت له نساعدكم حاجة، وهنا مباشرة شكر بقوة وخرج.
والعجيب في قم على الرّغم من الوضع الماديّ لا تجد متسولا، الكلّ يعمل هنا الصّغير والكبير، ولا يقبلون في الجملة أن يأخذوا أكثر من حقهم إذا قدّموا لك عملا إلا بصعوبة جدا.
وفي المكان بنيت قاعة حديثة في العشر السّنوات الأخيرة للمحاضرات، ثمّ خرجنا ويوجد سوق كبير في المنطقة، سوق شعبيّ، وبنايات خاصة لبيع الكتب، وأغلبها الكتب الدّينيّة والفلسفيّة، وبعض المكتبات متخصصة في الكتب الدّينيّة.
ثمّ ذهبنا نمشي في الزّقاق، ومع تأخر الوقت، إلا أنّك كأنك في وقت الصّباح، والمكان آمن جدا، والكلّ في سبيله بلا ضجيج أبدا، وهنا ذهبنا إلى مكان لبيع الخضروات والفواكه، وهي طبيعيّة عندما تأكلها تشعر بلذة؛ لأننا أردنا أن نتعشى بالفواكه حيث آثار الغداء لا زالت باقية، وعموما سنتعب في هذه الرّحلة من العزومات والكرم الغريب، وغالب زياراتهم يقدّمون فيها المشاوي بأنواعها من دجاج ولحوم وسمك، والسّلطة والفواكه، والعيش الإيرانيّ الأبيض مع الزّعفران، والحلويات والمشروبات، وبعضهم هنا يشربون البيرا الخالية من الكحول، حتى علمائهم ولا يرون فيها حرجا ما دامت لا توجد فيها كحول، وفي اليوم الأخير ونحن في عزومة العشاء وصلت إلى الدّرجة الّتي يصعب بعدها الأكل إلا تكلفا!!!
والفواكه والخضروات هنا أغلبها إيرانيّ، وبعضها حسب ما أخبرونا في السّوق تؤتى من باكستان وأفغانستان، وهي فواكه طازجة، تجد لذة غريبة في أكلها لا تشعر بالشّبع منها.
كذلك اللّبن هنا طبيعيّ، وبأنواع مختلفة كإضافة الزّعتر فيه، ويبيعونه بصورة كبيرة جدا.
رجعنا بعدها إلى السّكن لنستعد للجلسة الحواريّة في مؤسسة بيت الملليّ.
زيارة مؤسسة بيت الملليّ
كما أسلفنا آنفا ونحن نتغدى مع سماحة الميرزائيّ، جاءه اتصال بأنّ مؤسسة بيت الملليّ تريد تعمل حلقة حوارية مفتوحة معنا، فاتفقنا نذهب يوم الخميس السّاعة العاشرة صباحا وحتى الثّانيّة عشر ظهرا.
وذهبنا هذه المرة مبكرين، وأرسلت لنا المؤسسة سيارة إلى الفندق، فوصلنا تقريبا قرب التّاسعة والنّصف، وهنا استقبلنا سماحة الشّيخ مهدي مرتضى نائب سماحة الشّيخ الشّماليّ مستشار سماحة السّيد خامنائيّ الولي الفقيه للجمهوريّة الإيرانيّة.
وقال سماحته أيّ الشّماليّ يبلغكم السّلام ويعتذر لكونه الآن في لندن؛ لأنّ للمركز فرعا هناك.
والشّيخ مرتضى يتقن الإنجليزيّة مع الفارسيّة وقليلا من العربيّة، لذا هو يتحدث بالإنجليزيّة وهناك من يترجم له، فقد تحدث أنّ المركز تحت إشراف السّيد القائد الخامنائيّ مباشرة، وهدفه ما بعد الدّكتوراه حيث يوفر مدرسين لمن أراد ذلك كعقد دورات في أيّ دولة من دول العالم، وهم الآن يدرسون حتى في جامعات غربيّة معروفة، كما يرسلون من يريد التّبليغ حول المشتركات الإسلاميّة، ولهذا الظّاهر نيللي بمعنى التّبليغ.
والمركز عمره لا يتجاوز سبع سنوات، ويدّرس أيضا الابتدائيّ والمتوسط وبحث الخارج، وبثلاث لغات الفارسيّة والعربيّة والإنجليزيّة، وأصدر العديد من المنشورات باللّغات الثّلاثة، والآن يتجه إلى التّرجمة، وعندهم مشروع كتاب الإسلام، يأخذ المشتركات من المذاهب، والكتاب يشتغلون عليه في خمس مجلدات، صدر الجزء الأول بالّلغة الإنجليزيّة، وفي الطّباعة حاليا الجزء الثّانيّ، وهو مطبوع في طباعة فاخرة مليء بالصّور المعبرة.
ومشروع الكتاب سيكون باللّغة الإنجليزيّة ثمّ يترجم إلى الفارسيّة والعربيّة واحتمال أيضا الأورديّة.
عموما ذهبنا إلى قاعة الحوار وقد حضرها مجموعة من الباحثين والأكاديميين ورجال الدّين، وبدأ الحوار في التّعارف وأهميّة التّداخل المعرفيّ والحضاريّ، ثمّ فتح باب الأسئلة والحوار، ونوقشت العديد من الجوانب حول مثلا أزمة التّيارات الفكريّة، وقضية الفضائيّات واللّعن وإثارة الخلاف، وقضيّة التّأريخ ونقد المذهب، وقضيّة بناء الإنسان، والمشتركات بين المذاهب، ثمّ تطرقنا للحديث حول الفرق في عمان والدّراسة الدّينيّة، وبعض التّيارات المعاصرة كالبهائيّة، وغيرها من الجوانب الكثيرة، استمرت أكثر من ساعتين.
ثمّ بعد ذلك كان تبادل الصّور والتّعارف الجانبيّ، وبعدها ذهبنا إلى مكتب سماحة الشّماليّ لتناول الشّاي، وقد ناب عنه الشّيخ مرتضى، وأحد الأخوة لا يحضرني الآن اسمه.
وكان من الحاضرين الشّيخ مقداد الطّهرانيّ وهو قد انهى الآن تحضير رسالة دكتوراه حول الاستفادة من أعضاء المحكوم عليهم بالإعدام، وسألته ما الرّاجح الّذي خلصت إليه، قال: الجواز، والرّسالة باللّغة العربيّة.
وجاء وقت الصّلاة، حيث يوجد مصلى بالمؤسسة، وتجمع الجميع من إداريين وطلبة وأساتذة وباحثين للصّلاة، وهنا جاءني مرتضى بأن أصلي بهم فرفضت، وقال نتكلم بجد، قلتُ له أعرف ولكن الوضع لا يسمح، وذلك لأنّ العديد من الحضور قد لا يفقه صلاتنا، فنحترم المعمول به عندهم.
وهنا تقدم بنا أحد الأساتذة وصلّى بنا الظّهر والعصر، وقبل الصّلاة اتصل خطيب المنبر الحسينيّ السّيد محمد الشّوكيّ بالأستاذ أبي عمار من الكويت وهو يعرفهم معاتبا لعدم معرفته بخبر المجيء، وأصر أن نتناول الغداء في بيته، لهذا اعتذرنا من المؤسسة أن نتناول معهم الغداء لارتباط قد حصل، ولإرضاء الجميع.
زيارة الخطيب الحسينيّ سماحة السّيد محمد الشّوكيّ وتناول الغداء معه
كما رأينا أنّ سماحة السّيد الخطيب الحسينيّ محمد الشّوكيّ اتصل بالأستاذ أبي عمار من الكويت لتناول الغداء معه، وقد أتى إلى عمان مرتين لإلقاء الخطب الحسينيّة، واتُصِلَ به قريبا واعتذر لظروف خاصة به.
والسّيد أصله عراقيّ، جاء إلى قم منذ عشرين عاما، مع العراقيين الّذين فروا من الاضطهاد في عهد النّظام السّابق، وصارت لهم أحياء كبيرة في إيران ومنها قم، ويُقال نسبة العراقيين في قم قبل فترة بسيطة نسبة كبيرة جدا، إلا أنّ العديد وربما الأغلب رجع إلى العراق بعد سقوط النّظام، ولكن أحوالهم لم تتحسن؛ بل بعضهم هاجر إلى سوريّة حتى حدثت الأحداث الأخيرة، لذا يمكن اعتبار من سكن في إيران الأفضل استقرارا حتى الآن، وهم يعملون بالتّجارة في جملتهم.
والعراقيون في إيران متمسكون بعاداتهم وثقافتهم وهويتهم ولغتهم العربيّة، وهم أصحاب كرم وجود كبير.
وعلى العموم مؤسسة بيت الملليّ الّتي تحدثنا عنها أعدّت لنا سيارة، وأوصلنا السّائق إلى بيت السّيد بسهولة، والجميل في قم من العنوان بسهولة يصلك السّائق إلى المكان المحدد، وعندهم عادة جميلة لا توجد عندنا في عمان وهي وجود مكاتب لسيارات الأجرة، حيث من البيت تتصل بالمكتب وتأتيك السّيارة فورا وأنت في بيتك، دون الانتظار خارجا، وهذا يكسب الوقت ويعطي شيئا من الأمان خاصة للنّساء والأطفال.
وصلنا عند بيت السّيد في أحد الزّقاق، ووجدنا أخاه السّيد أحمد ينتظرنا في الخارج، وهو رجل كثير الابتسامة والصّمت معا، وفي قمة الخلق والتّواضع.
عندما دخلنا البيت نزلنا في سرداب، حيث أنّ عادة العراقيين أن تكون مجالسهم في السّرداب، وهذه انتقلت إلى إيران والكويت، وهي عادة جميلة، حيث السّرداب عبارة عن مجلس كبير فيه حمام ومغاسل ومطبخ مفتوح، بينما الأسرة تسكن في الأعلى، وبالتّالي يأخذ الضّيف راحته، وأهل البيت يأخذون راحتهم.
ومنهم من حول السّرداب إلى ديوانيّة كبيرة، مزودة برافع الصّوت، تعقد فيها الحلقات الثّقافيّة والفكريّة والأدبيّة، خاصة للمثقفين والكتاب وشيوخ الدّين والأدباء ورجال السّياسة وغيرهم، ويقولون ميزة السّرداب أنّه دافئ في الشّتاء وبارد في الصّيف، وعموما كلّ منازل إيران مزودة بغاز التّدفئة، وأخبرني الأستاذ أبو عمار أنّ هذا المشروع من أوائل المشاريع الّتي أقامهما الإمام الخمينيّ بعد الثّورة، حيث أوصل الغاز إلى جميع مناطق إيران عن طريق الأنابيب.
ولمّا نزلنا في السّرداب تذكرت أماليّ السّيد طالب الرّفاعيّ والّتي دونها رشيد الخيون في كتابه أماليّ طالب الرّفاعيّ، حيث يذكر الرّفاعيّ أنّ الشّهيد الأول محمد باقر الصّدر ألف كتابه الشّهير فلسفتنا في السّرداب، وكان يكتب كلّ جمعة، وذلك بعدما أصرّ الرّفاعي عليه أن يكتب لانتشار الفكر الشّيوعيّ والإلحاديّ بين الشّباب حينها، ووصف السّرداب بنفس الوصف، ولذا لمّا دخلت منزل السّيد الشّوكيّ تذكرتُ عبارة الرّفاعيّ، ولكوني أول مرة أدخل مجلسا في سرداب، وأخبرتُ السّيد الشّوكيّ بما كتبه السّيد الرّفاعيّ!!
وهنا تذكرت أيضا ما يروى عن الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ت 150هـ من علماء الإباضيّة الأوائل، حيث كان يعلّم طلبته في سرداب في البصرة، فلعل عادة السّرداب عندهم قديمة جدا!!!!
نزلنا إلى الأسفل، وجلسنا، وبعد فترة جاء السّيد لأنّه كان مرتبطا بالحوزة، ثمّ جاء ولده الصّغير وسلّم علينا، والأكبر قليلا تبعه أيضا.
قدّم لنا الشّاي وله لذة غريبة، ويتقنون في صنعه، فالمشاوي بأنواعها والسّلطة وشربة العدس والخضروات والفواكه.
وكانت الجلسة مثريّة امتدت لثلاث ساعات تقريبا، تطرقنا فيها إلى العراق وأحداث العراق، والوضع الحاليّ، وناقشنا فيها قضيّة العصمة في القرآن والمرويات، وأهميّة التّقارب والتّسامح، والسّيد صاحب فلسفة وانصب حديثه في جوانب فلسفيّة عديدة، خاصة في إثبات الوجود وخلق الكون.
كما ناقشنا بعض القضايا المعاصرة كالرّسول والنّبيّ، أو الرّسالة والنّبوة، وناقشنا أيضا قضيّة المهديّ، حيث للسّيد كتاب عنوانه الدّولة الأخيرة أي دولة المهديّ، وأهدانا كتابه، وأخبرته أنّ نظريّة المهديّ غير موجوده عند الإباضيّة في الجملة لا بالمفهوم الشّيعيّ ولا بمفهوم أهل الحديث وغالب المدارس السّنيّة وهو حسب رواية سيخرج المهديّ آخر الزّمان اسمه كاسمي واسم أبيه كاسم أبي.
ولأستاذنا الكبير محدث الدّيار الشّاميّة عداب الحمش كتاب نفيس في قضيّة المهديّ، وعموما احترم في الجملة رأي المدرسة الإماميّة كما أنني أحترم رأي المدرسة السّنيّة، والمسألة مسألة رأي واسعة، وإن كان أخوتنا الشّيعة يعتبرونها مسألة عقيدة، وكذا الظّاهر عند أهل الحديث، ممّن يثبت الاعتقاد بأحاديث الأحاد، وإن كان الإماميّة وبعض أهل الحديث يرون الرّوايات متواترة.
وكذا الحال في قضّية نزول المسيح، وأخبرته أنّ جملة الإباضيّة لا يرون نزول المسيح، ولهم رأيان في رفعه أو موته، وإن كان الظّاهر موته لقوله تعالى: فلمّا توفيتني كنت أنت الرّقيب عليهم.
وعموما مثل هذه الآراء مسائل واسعة واجتهاديّة لا ينبغي أن تكون حاجزا والأخوة الإسلاميّة، وأن ننظر إليها بعين السّعة لا بعين الضّيق والشّحناء.
أصر السّيد أن نجلس معه وأن يأتي بفرش للنّوم لنأخذ شيئا من الرّاحة، وأخبرناه بقي نصف ساعة، وعندنا موعد مع السّيد كمال الحيدريّ السّاعة الرّابعة عصرا في بيته، وكان أيضا للسّيد الحيدريّ جزءا كبيرا من الحديث في الجلسة، حيث للسّيد الشّوكيّ نظرة أخرى لبعض آرائه.
قال له الأخوة نريد منك أن تطلب لنا سيارة أجرة، فرفض وقال سيقوم أخي السّيد أحمد بتوصيلكم بنفسه، وبعد إصرار استسلمنا لأمره، وأوصلنا السّيد أحمد، وهنا ذهبنا إلى الفندق لعشر دقائق ثمّ إلى منزل السّيد كمال الحيدريّ…
زيارة السّيد كمال الحيدريّ
بعد تناول الغداء مع السّيد محمد الشّوكيّ رجعنا إلى الفندق لمدة عشر دقائق، وهنا نزلنا أنا والأستاذ أبو عمار من الكويت، وجاء معنا أحد الأخوة الطّلبة ممّن يدرس في الحوزة الدّينيّة في قم، أمّا الأستاذ كمال فقد تأخر قليلا لظروف خاصّة.
وصلنا منزل السّيد كمال قبل الموعد بقليل، وقد كان ينتظرنا، فضربنا الجرس، فرحب بنا ترحيبا كبيرا، واستقبلنا في مكتبة منزله، وكانت غرفة مفتوحة في الأعلى، جميع جدرانها مع حائط في الوسط مليئة بالكتب، ومفهرسة حسب المعارف، وألحق بالمكتبة غرفة صغيرة مفتوحة مزودة بالكتب الفكريّة والنّقديّة المعاصرة ككتب محمد عابد الجابريّ وأركون وغيرهم من المعاصرين، وتضم عشرات الكتب الفكرّيّة والنّقديّة المختلفة، ممّا يدلّ على اطلاح سماحته على كلّ جديد.
جلسنا في مكتبه ولحق بنا الأستاذ كمال اللّواتيّ بعد نصف ساعة تقريبا، حيث قال لنا في البداية نبدأ أم ننتظر الأستاذ كمال، قال له الأستاذ أبو عمار الأفضل أن نبدأ.
دخل بداية في الحديث عن الإباضيّة والخوارج، وقضيّة النّهروان، وكان بعض الحديث حول هذا، والمشكلة أنّ الرّوايات في هذا سياسيّة، والرّؤية الإباضيّة ليست حاضرة، لذا السّيد بنفسه لاحقا طلب مصادر الإباضيّة في هذا وغيرها، ولعل أفضل من كتب في هذا الشّيخ ناصر السّابعيّ في كتابه الحقيقة الغائبة.
وبعدها دخلنا في موضوع المشروع الجديد الّذي يشتغل عليه سماحته وهو مشروع محوريّة القرآن، وقد بدأ في شرحه في قناة الميادين في حلقتين، وكان يأمل أن يكون له حلقات أكثر فيها بعد توقيفه من المواصلة في قناة الكوثر، وكان قد أصدر عدة كتب في هذا منها كتاب الموروث الرّوائيّ بين النّشأة والتّأثير، وكتاب ميزان تصحيح الموروث الرّوائيّ معالم نظريّة عرض الرّوايات على القرآن الكريم.
ثمّ بين لنا أنّه توجد ثمانون علّة في الرّوايات، وأشار في الجلسة إلى بعض هذه العلل كمخالفتها لصريح القرآن، وأشار هنا إلى كتاب أسباب اختلاف الحديث.
وتطرق في الحديث إلى قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وهنا ألغى اليهود النّصارى والعكس مع تلاوتهم للكتاب، كذلك الّذين لا يعلمون من المسلمين قالوا مثل قولهم، فتقول السّنة ليست الشّيعة على شيء، وتقول الشّيعة ليست السّنة على شيء، وهو ذكر السّنة والشّيعة وإن كانت المذاهب الأخرى تقول أيضا مثل قولهم!!!
ثمّ ذكرتُ له الهيمنة والتّصديق القرآنيّ في سورة المائدة وهنا أسهب فيها كثيرا، وبين أنّ الإشكاليّة في المذاهب تصورها أنّ الحق ينحصر فيها، ومن خالفها على باطل، وهنا بين أنّه لم يصح عنده من روايات المصادر الأربعة عند الإماميّة إلا خمسة بالمائة، وقبل الصّلاة سألته في الاعتداد بالسّند، فقال أنا لست ضد السّند، وضد إهمال المتن، ولكن لا يكفي عندي صحة السّند فلابد من قراءة المتن، وهنا أشرت إليه في أثناء اللّقاء إلى المدرسة التّفكيكيّة، فهو مع تفكيك المتن!!
كذلك تطرق الحوار إلى قضيّة الجنّة والنّار، فهو يرى باشتراكيّة الجنّة، وانطلق من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وبين أنّ الّذي ولد في بيئة هندوسيّة أو يهوديّة أو نصرانيّة وبحث وتبين أنّ هذا هو الموصل إلى الله فهو في حكم النّجاة؛ بل حتى الملحد الّذي يبحث عن الحق وعن الله تعالى وعنده برهان يحاج به الله يوم القيامة فهو في رحمته، وهو أشار إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، وقال القضيّة مرتبطة بالبرهان والبحث حسب الملكات والقدرات!!
وهنا أشرتُ إلى ما قاله كذلك حسن فرحان المالكيّ باشتراكيّة الفردوس، فقال أنا قلت قبله أكثر من خمس عشرة سنة، وقبل ظهوري في قناة الكوثر بكثير، وبين أنّ له تواصل مع حسن فرحان هاتفيا، وعلاقة كبيرة، إلا أنّ بعد الأحداث انقطع عن الاتصال بسبب الأوضاع السّياسيّة بين البلدين!!
وتطرق هنا الحديث إلى أنّه لا يوجد ضروريّ في هذا الجانب، حتى وجود الله تعالى، فهو ليس فطريّا أو ضروريّا وإنّما يكون بالبحث والتّفكر والتّأمل، وإلا فكل يقلّد البيئّة الّتي ولد فيها!!!
وتحدث عن حفظ القرآن، وأنّه نزل محفوظا، فهو مجموع في عهده صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، خلاف المرويات الّتي قامت على النّقل بالمعنى، وهنا أسهب في الحديث حول النّقل بالمعنى والأحوال المصاحبة للنّقل بالمعنى، ولذا لابدّ من البحث عن الطرق الأخرى، والتّصديقات، وهذا ما قاله أيضا حيدر حب الله كما سيأتي في الحلقة القادمة.
أيضا أسهب في الحديث عن المصاديق، وأنّها مرتبطة بالزّمان والمكان، وضرب لنا مثال التّعدد في الزّواج فهو يعود إلى الظّروف الزّمانيّة والمكانيّة، وكذلك مثلا قضية الصّوم في المناطق الّتي يطول فيها النّهار، والمناطق القطبيّة، فهنا يدخل عنصر المكان، وهنا ذكرت له أنّ القرآن أجاب عن هذا في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فوافقني الرّأي، علما أنني فصلت المسألة في كتابي أيام رمضان.
والحديث حول المصاديق أخذ حيزا كبيرا من الوقت وأتى بنماذج، وحدث فيه أخذ ورد مع الأخوة، يطول لذكره المقال، وإنّما نعطي هنا صورة وصفيّة عامّة، وكذا الحال في النّظريات العرفانيّة في كتب الشّيعة حول الخلود في النّار، وذكر أربع نظريات، وأتى بشاهد من أحد كتب جواد مغنيّة.
ويرى كذلك قضيّة الكفر ليست بالمعنى السّائد، فلا يوجد في الأصل أنّ الإنسان كافر بمخالفته الإسلام، حيث للإسلام معنيان، معنى عام يشمل النّاس والملل جميعا، ومعنى خاص بمعنى الإسلام الجنسيّ، فاليهود والنّصارى عنده ليسوا كفارا، وإنما – فيما فهمته – أنّ الكافر هو المكابر والمعاند بعد ما عرف البرهان!! وهذه النّظريّة يقولها أيضا فيما أعلم حسن فرحان المالكيّ وبعض المعاصرين!!
وعليه هو يرى أنّه لا يمكن تحقيق وحدة الأمة إلا بالرّجوع إلى محوريّة القرآن الكريم، والحديث مع السّيد طال لأكثر من ساعتين ونصف، وهناك جوانب تأريخيّة وفلسفيّة لا يمكن الإسهاب فيها، ولهذا قلت له قبل أن نخرج أريد أن أكتب عن اللّقاء: فقال لي أكتب ما تشاء بفهمك أنت ولك الحريّة!!
وطلب منه الأخوة بعدما أذن المغرب أن يصلي بنا، فوافق بعد تكرار الطّلب، وأمرنا بالوضوء، وتوضأنا، وهنا قال لي ممازحا: سأذهب أحضر التّربة – أي تربة السّجود – للجماعة وليست لك!! لفقهه أننا لا نسجد على التّربة!!
فصلّى بنا المغرب والعشاء، وقرأ لنا في الصّلاتين سورتي الصّمد والكوثر، صلّى بنا المغرب ثلاثا، والعشاء أربعا!! وبعد الصّلاة اختلى بنفسه يدعو ويسجد ثمّ أتى إلينا مرة أخرى!!
وهنا سألته عن كتاب أحمد صبحي منصور القرآن وكفى لأنني سمعته ذكره في أولى حلقات من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث في قناة الكوثر، وقال نعم عندي وقرأته!!
وهنا طرح أبو عمار لسماحته بعض الأسئلة الشخصيّة رغم أنّ سماحته في البداية أظهر البعد عن الموضوع، ولكن أصرّ أبو عمار، وقال له كم تنام في اللّيلة، قال بيني وبين الله أنام مبكرا السّاعة العاشرة، وأستيقظ مبكرا السّاعة الثّالثة فجرا، ولا أنام في النّهار!!!
وسأله عن عدد ساعات القراءة يوميا، قال من خمس ساعات إلى سبع ساعات، إلا أنّه يهتم أكثر الوقت بالتّفكير، فهو يمشي ويفكر في مكتبته الواسعة أكثر الوقت، وأكثر من القراءة، وأنا أذكر له شخصيّا عبارة ذكرها عن الشّهيد الأول الصّدر، وسماحته من تلاميذ الصّدر في عبارة تشير أنّ وقت التّفكير عنده أكثر من القراءة، لا يحضرني الآن نص العبارة، وقد نشرتها منذ سنوات في صفحتي!!
وسألته عن أصول الفقه ونقده، وها أشار لي في مكتبته إلى مجلدات له في الأصول، قلت له شرح أم نقد، قال لي: لا، يوجد نقد في الدّاخل، وهنا سأله أحد الأخوة ألا تخاف أن يبتعد النّاس عنك وأنت تطرح هذا، فبين الغاية مرضاة الله تعالى وليس النّاس، على أنّ النّاس يتواصلون معه.
والجميل في إيران جملة لا يوجد إقصاء، فمع نظرياته الجريئة حتى في الإمامة والعصمة، إلا أنّ دروسه الحوزويّة باقيه، وفي معرض قم الّذي سنشير إليه في الحلقة الثّامنة قاعة كبيرة لكتبه، وتباع بكل حرية، بينما لو في دول أخرى قد يقصى ويهمش من وظيفته، فضلا أن يتصل بالنّاس أو الطّلاب، وقد تمنع كتبه أو يشدد فيها أو يرمى في السّجن بتهمة إساءة الأديان!!!
والسّيد كثير الانفعال في الحديث، وكثير الشّدة، ولكنك تجده مع انفعاله وشدته يأتي بمثال فيضحك معه ويُضحك من يسمع له، وهنا قال الأستاذان كمال وأبو عمار مع كثرة زيارتنا لسماحته في السّنوات الماضية وشدته لكن لم نره منبسطا ويضحك كثيرا مثل اليوم!!
وللسّيد مؤلفات كثيرة تفوق المائة، وهناك مسودات عديدة، منها ما كتب عن طريق تلاميذه، وبعضها دراسات عنه تنتظر التّصحيح منه للنّشر!!
وهو لا يحب البحث عن طريق الجهاز، وإنّما البحث في الكتاب مباشرة، وذكر أنّه له تلميذ يطلبه متى يشاء للبحث الالكترونيّ!!
وهو أيضا لا يحبّ السّفر ، حتى مشهد لم يزرها منذ سنوات حسب ما ذكر إن لم تخني الذّاكرة!!!
وعند التّوديع قال له الأستاذ كمال ممازحا: أين الشّاي؟!! قال أنا هنا أسكن بمفردي، وفقط كما ترى على البحث والكتب، ولا يوجد هنا من يطبخ لي!!
وفي الختام اعتذرنا له عن إطالة الوقت، ولأنّه ارتبطنا بموعد للعشاء مع الشّيخ حيدر حب الله، وطلب مني التّواصل عن طريق الهاتف، وطلب بعض المراجع الإباضيّة المهمة، فودعناه لضيق الوقت ولارتباطنا….
زيارة الشّيخ حيدر حب الله
بعد الانتهاء من زيارة سماحة السّيد كمال الحيدريّ ذهبنا مباشرة إلى الموعد المسبق مع الشّيخ المفكر الإسلاميّ المعروف حيدر حبّ الله، وحيدر حبّ الله أصله لبنانيّ يعيش في قم، ويدرس في مركز العروة الوثقى، وهو رئيس تحرير مجلة نصوص معاصرة، والاجتهاد والتّجديد، والمجلتان من أهدافهما التّقارب بين المدارس الإسلاميّة، لذا فيها لجنة استشاريّة من السنّة ومن الإباضيّة أيضا، فمن السنّة المفكر الإسلاميّ المصريّ الدّكتور محمد سليم العوا، ومن الإباضيّة المفكر العمانيّ الشّيخ خميس العدويّ.
ولحيدر حبّ الله إصدارات عديدة منها التّعدديّة الدّينيّة، نظرة في المذهب البلوراليّ، وكتاب نظريّة السّنة في الفكر الإماميّ الشّيعيّ، التّكون والصّيرورة، وآخر كتبه حجيّة الحديث، ويكتب حاليا عن أحاديث الأحاد، لذا طلب كتاب السّيف الحادّ لمن أخذ بأحاديث الأحاد في الاعتقاد للعلامة سعيد بن مبروك القنوبيّ، وتكفل الأستاذ كمال اللّواتيّ بتصويره وإرساله؛ لأنّه نفد من المكتبات، وفي معرض الكتاب الحاليّ نشرت له الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء بالتّنسيق مع دار الغشام بحث أوجه التّعصب في المجتمع العربيّ العلمانيّ والمذهبيّ أنموذجا، ضمن كتاب التّطرف الفكريّ ومدى تأثيره في المجتمع العربيّ، إعداد وتحرير الأستاذ الجليل خميس بن راشد العدويّ، ولي شخصيّا في الكتاب بحث فكرنا الإسلاميّ والقيم الإنسانيّة، وهذه الأبحاث مقدّمة لمؤتمر التّطرف الفكريّ بجمعيّة الكتّاب والأدباء، سلطنة عمان/ مسقط من 7/12 وحتى 7/12/ 2015م، ولم يتمكن حيدر حبّ الله من الحضور؛ وقد سألناه عن السّبب، فأجاب أخبرت بموعد النّدوة قبل أربعة أيام والتّأشيرة هنا يحتاج لها فترة، وليس من السّهولة أخذها في هذه الفترة، وذلك لأنّ الجمعيّة حصلت على الموافقة على المؤتمر بعد فترة قصيرة، عموما ورقة حيدر حبّ الله قرئت في المؤتمر، وهو أتى إلى عمان مرتين، ومعجب كثيرا بالتّعايش في السّلطنة.
وحيدر حبّ الله قامة علميّة وفكريّة في الوقت معا، فهو باحث وكاتب أيضا، ويسمع للآخر، مع قمّة التّواضع، والابتسامة لا تفارقه حتى عند سماعه للآخر أو حديثه.
وصلنا إليه تقريبا في تمام السّاعة الثّامنة مساء، وهو يعيش في بيت متواضع جدا، ومجلسه أيضا في سرداب، وفي السّرداب مكتبه ومكتبته، وفيه دورة المياه ومطبخ مفتوح للسّرداب.
استقبلنا بتواضع وسألنا عن بلادنا ورحبّ بنا، ثمّ بدأ الحديث عن السّيد كمال الحيدريّ، وخاصة عن المصاديق وارتباطها بالزّمان والمكان، وحيدر حبّ الله يرحب بأيّ رأي واجتهاد، وأن يسمع له، ويعطى الحريّة؛ لأنّ الأفكار تتدافع، والمنهج العلميّ والنّقديّ هو الّذي نحتاج إليه حاليا وليس المنع والصّريخ والإقصاء.
وتحدثنا في مجلسه عن الرّواية بالمعنى، ويقول جملة الرّوايات مروية بالمعنى، لذا لابدّ من البحث عن طرق الرّواية ومداراتها؛ لأنّ الرّواية من طريق واحد معرضة للتّحريف أمّا زيادة أو نقصانا.
وهو يرى أنّ الرّواية لابدّ أن تكون مشتركة بين المدارس الإسلاميّة، وحسب علمي له مشروع في هذا، في تجميع الرّواية حسب المذاهب الإسلاميّة.
وهنا تحدثنا عن الإباضيّة والرّواية عندهم، وهو مطلع على مسند الرّبيع، إلا أنني أخبرته أنّ الإباضيّة في الأصل المذهب عندهم يقوم على العمل، وممكن اعتبار مدونة أبي غانم الخرسانيّ أقدم مصدر في هذا؛ لأنّها وثقت العمل في القرن الأول الهجريّ وبدايات القرن الثّانيّ خصوصا عن طريق التّدوين المبكر، ممّا يعطيها قيمة علميّة كبرى.
ورأيتُ في مكتبته كتاب السّنة الوحي والحكمة للأساتذة خميس العدويّ وزكريا المحرميّ وخالد الوهيبيّ.
ثمّ دخلنا في موضوع الصّحابة عند الإباضيّة، وقضيّة البراءة من الإمام عليّ، وهنا أسلفت له أنّ الإباضيّة مع حدة الأوائل إلا أنّ القضيّة كانت سياسيّة في الأصل، ورواية الإباضيّة في قضية النّهروان وحروراء غير عن رواية الشّيعة والسّنة، فرواياتهم تفيد أنّهم لم يخرجوا على الإمام عليّ، وإنّما خرجوا عن الإمام عليّ، ومع هذا تجاوزوا إلى قضيّة الوقوف وفق قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
والإباضيّة يجلون الإمام عليّ، ويتبركون بتسمية أولادهم به، ولا تجد أسرة في عمان من الإباضيّة وغيرهم إلا واسم عليّ حاضرا بينهم في النّسب أو العائلة، والعديد من مسائل فقههم ومروياتهم عنه رضي الله عنه.
وسألني هل توجد كتب في هذا، فأخبرته أفضل من كتب في هذا الشّيخ بيوض ت 1980م رحمه الله تعالى، وأخبرته سأرسل له، وهي في الأصل محاضرات مدونة له من قبل تلاميذه، وذهبت إلى مكتبة التّراث بالمعرض ولقيت الشّيخ الأديب ناصر بو حجام، وأخبرني أنّ الكتاب نفد، وفي نيتهم إعادة طباعته، وعندي نسخة قديمة، سأقوم بتصويره وإرساله بإذن الله تعالى، كما لسماحة الشّيخ أحمد الخليليّ محاضرة في هذا بعنوان رأي الإباضيّة في عثمان وعليّ.
وعموما المسألة عندنا تجاوزها الزّمن، والصّفحة الماضيّة أصبحت أشبه بالتّراث، ومع هذا يجب نقده، وأخبرته بمقالي: قصاصات الكتب الصّفراء، ووجدت الشّيخ مطلعا على العديد ممّا أكتبه، ومنه مقالي الأخير ألوهية المذهب.
وأثناء العشاء سألنا الأستاذ عن رأيه في نظام الدّولة، فهو يرى أنّ الدّولة لابدّ أن تكون دولة الإنسان، لا المذاهب والأيدلوجيات، وهذه الرّؤية قريبة من رؤية السّيد محمد حسين فضل الله ت 2007م رحمه الله تعالى، ودولة الإنسان لا تتعارض أو تتخاصم مع الدّين، وفي الوقت نفسه دولة مدنيّة تفتح الآفاق للجميع، وتراعي القيود الاجتماعيّة، وهوية المجتمعات.
ويقول المشكلة عندنا لا توجد دولة إسلاميّة؛ بل دولة مذاهب، فالدّولة المذهبيّة هي السّائدة عندنا، ومع هذا أيّ خطأ يتهم به الإسلام، ممّا شكل مع تردي الخطاب الدّينيّ ردّة نفسيّة في نفوس الشّباب، ممّا جرّ العديد إلى الإلحاد، والإلحاد في أغلبه سببه نفسيّ أكثر منه علميّا.
وهنا تطرق الأستاذ إلى بعض القضايا العلميّة كقضيّة خلق الإنسان، وأنّه ليس ضد النّظريات العلميّة المعاصرة كنظريّة دارون.
ويرى أنّ النّاس في الغرب يعانون من خواء روحيّ، ويرى أنّ الأغلب يتجه إلى الهندوسيّة وممارسة اليوجا؛ لأنّه يبحث عن بديل روحيّ دون إلزامات كثيرة.
ويرى أنّ الاختلاف سنّة طبيعيّة، والقرآن أقره، ولابدّ من نقد المذهب والذّات، وله آراء في العصمة، ولم يكن سلبيّا مع أطروحات أحمد الكاتب، ويثني على كتابه الأول تطور الفكر الشّيعيّ من الشّورى إلى ولاية الفقيه.
ويرى أنّ المرجعيّات عند الشّيعة فكرتها متأخرة، بدأت بعد الدّولة الصّفويّة، وذلك أنّ الدّولة الصّفويّة كانت في الأصل دولة سنيّة ثمّ تبنت الإماميّة، وتعصبت للمذهب الإماميّ، ومارست العنف ضد المخالفين كالسّنة، وهنا وضعوا وظيفة شيخ الإسلام، أو قاضي القضاة، ثمّ بعدها كانت نظام المرجعيات، وهو ينقد نظام المرجعيات، وبين بعض السّلبيات.
ويرى أنّ المرجعيّة الأولى والأخيرة للقرآن، ويجب أن ترجع إليه الرّوايات والفتاوى لا العكس، وهنا أخبرته أنّ العديد من روايات الشّيعة موجودة عند المذاهب الأخرى إمّا إسنادا إلى الرّسول أو الصّحابة أو التّابعين، وضربت له مثلا ما ذكرته في بحثي زكاة الفطر قراءة في المذاهب الثّمانيّة، وقال يشتركون في نفس الرّواية أو بألفاظ قريبة مالا يقل عن خمسين بالمائة، والسّنة يرون أنّ الشّيعة أخذوا مروياتهم ونسبوها إلى أئمتهم، والشّيعة يرون العكس أنّهم أخذوها ونسبوها إليهم وفق منهجهم الرّوائيّ!!!
وعليه يرى أنّ المشترك بين الجميع هو القرآن، فهو يعطي المنطلقات العامّة، ويرى أن آية: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، لا تفيد حجيّة السّنة؛ لأنّها في سياق توزيع الفيء!!!
وله رسالة في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وأتصور رسالة الدّكتوراه الثّانيّة له، بعد رسالته الأولى في جامعة المصطفى عن حجيّة السّنة، والثّانيّة أتصور في جامعة الأديان.
ويرى أنّه لا يوجد شيء اسمه الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باليد، وإنمّا يكون عن طريق البلاغ كما في القرآن، إلا إذا كانت عليه عقوبة منصوصة، وإلا فالأمر يرجع إلى رأي الأغلبيّة.
وفي مجلته الاجتهاد والتّجديد العدد قبل الماضيّ كانت له مقدمة عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كما لأستاذنا أحمد النّوفليّ كتاب نفيس عن هذا طبع منذ فترة.
عموما تناولنا وجبة العشاء مع الأستاذ، وكانت وجبة خفيفة، تضمنت البيض والفطائر بالزّعتر والجبن والدّجاج، مع الشّاي واللّبن والسّلطة، وقد عقد أيضا مع الأخوة أنّ الغداء يوم الجمعة معه، وهنا خرجنا السّاعة الحادية عشرة، وطلب لنا سيارة، فأتت بسرعة، فرجعنا الفندق بعد يوم كثيف باللّقاءات، ومع هذا مشينا لمدة نصف ساعة قبل النّوم.
وفي السّاعة الثّانية عشر ظهرا يوم الجمعة ذهبنا إليه، وفي قم لا تقام الجمعة إلا في مسجد واحد، يقوم بها من ينوب عن السّيد القائد الخامنائيّ.
وصلنا إلى الأستاذ حيدر وكان ينتظرنا، فنزلنا إلى السّرداب، وقدّم لنا الشّاي والحلويات، ثمّ توضأنا، وأمرني أن أصلي بهم، فقلت له: لا يؤم المرء في سلطانه، فصلى بنا صلاة خاشعة الظّهر أربعا والعصر أربعا، ويدعون بينهما وبعدهما.
وهنا لحقنا السّيد عباس وهو لبنانيّ في العشرينيات من عمره، مؤسسة الثّقلين، وهذا سنتحدث عنه بعد قليل.
والأستاذ عباس قدّم رؤيته الجديدة كمذكرة للمركز، وكما قدّم أيضا مشروعه كدورات في تطوير المنبر الحسينيّ.
عموما جاء الغداء وكان منوعا بالمشاوي بأنواعها لحما وسمكا ودجاجا، والسّلطات والعصائر، ثمّ كان الشّاي، ويطبخونه بآلة عجيبة وهي عبارة اسطوانة معدنيّة على شكل مخروط كبير في الوسط وضيّق في الجانبين، وفي الأعلى اسطوانة أصغر، في الأكبر يكون الماء، وفي الأعلى الشّاي، وذلك لكي يقيس المرء الشّاي على راحته، ويتركونه يتخمر في فترة طويلة، وله لذة عجيبة، ويقول الأستاذ إنّ هذه الآلة معه من عام 1995م، ولا زالت باقية، وهي تعمل عن طريق الكهرباء.
استمرت الجلسة حتى الرّابعة عصرا، وكانت مليئة بالنّقاش، وما ذكرته من باب الإشارة لا غير، وبعدها ذهبت مع السيّد عباس إلى مركز العروة الوثقى، بينما اعتذر الأستاذ كمال وأبو عمار لارتباط خاص بهما…
زيارة مؤسسة الثّقلين ومعرض قم للكتاب
بعد تناول وجبة الغداء مع الأستاذ والمفكر الإسلاميّ حيدر حب الله كما ذهبت مع السّيد عباس، وهو رجل متواضع جدا، وفي العشرينيّات من عمره، أصله من لبنان، ودرس في قم، والآن يعيش ويعمل بها، كما أنّه يواصل دراسته أيضا.
ذهبت معه إلى مؤسسة الثّقلين، وهي مؤسسة مجاورة لمنزل الإمام الخمينيّ ت 1989م في قم، والّذي أصبح الآن مزارا، والعجيب في إيران بيوت علمائهم وكبارهم متواضعة جدا، والإمام الخمينيّ كان بإمكانه أن يجعل من قصور الشّاة قصورا له، ولمّا طلب منه أن يُبنى له بيتٌ أكبر؛ رفض، ومات وبيته لا يزيد عن غرفتين!!!
وسابقا قرأنا من خصومهم أنّهم أغنياء بأموال الخمس؛ ولكني وجدت من جالستهم حالتهم ليس جيدة، والخمس يذهب إلى المكاتب، ولها وثائق، ويتمّ صرفها بشكل مؤسسيّ، ولا يحق للمرجعيّة التّلاعب بها!!!
ومن هذه الكتب المحرفة للأسف كتاب: لله ثمّ للتّأريخ، وهو كتاب وضعه خصومهم، ولا يعني عدم وجود أخطاء، ولكن الأخطاء موجودة في جميع الأديان والمذاهب من خلال استغلال الدّين لمصالح شخصيّة كما أخبر سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وهذا لا يعني أيضا عدم وجود ربانيين ومخلصين في كلّ مذهب ودين وملّة!!
وصلنا إلى مؤسسة الثّقلين، وهي أصلها بيت قديم جدا، يحوي على قاعة كبيرة مفتوحة في الوسط، وعلى جوانبها أربع غرف صغيرة، غرفة وضعت للإدارة وفي الوقت نفسه تكون صفا.
أمّا القاعة الكبرى المفتوحة فقد سكرت في الأعلى، ووضعت للمحاضرات والدّورات العامة، خاصة الأستاذ حيدر حبّ الله، كما وضع فيها ركن للمكتبة، وتضمّ كتبا عديدة باللّغة العربيّة؛ لأنّ المؤسسة أو المركز يدرس فيه باللّغة العربيّة، إلا أنّه لاحظت وأنا أقلب الكتب أنّها تخلو من الكتب الفكريّة والنّقديّة، وطالب العلم بحاجة أن يطلع عليها، خاصة في مؤسسة أرادت أن تكون حاضنة للفكر المتنور والمعاصر.
وأضيف في المؤسسة حصة أسبوعيّة للرّياضة، يمارس فيها الطّلاب الرّياضة كعلم يدرس، وليس مجرد هواية، ويدرس فيها مجموعة من الأكاديميين والباحثين، وهدفها كما أسلفت نشر التّنوير والبحث العلمي، ولا تخلو من معارضة، لكنها تشق طريقها بكل أمل وتفاؤل.
عموما بعدها ذهبت إلى النّزل وأخذت قيلولة صغيرة، وبقي لي شيئا من الوقت، إذ سماحة الشّيخ نجف الميرزائيّ عنده ضيف من المملكة المغربيّة، ويريد أن نشاركه العشاء، وقد نسّق موعدا مع الأستاذ كمال اللّواتيّ، فما بقي للوقت ذهبتُ فيه لزيارة المعرض، وكان في يومه قبل الأخير.
والمعرض مقابل للفندق الّذي أقمنا فيه، وهو عبارة عن مجمع كبير من أربع طوابق، وغالب مبيعاته بالفارسيّة، ولكن توجد كتب كثيرة بالعربيّة، ومكتبات متخصصة للعربيّة، ومنها المترجم من الفارسيّ إلى العربيّ.
وأخبرنا العلامة الميرزائيّ أنّ في إيران يترجم إلى الفارسيّة سنويا مالا يقل عن ألفين كتابا، ومن الثّورة حتى الآن ترجم بمعدل مليونين كتابا.
وسألت الأستاذ حيدر حبّ الله هل الرّوايات الأدبيّة لها أقبال في إيران، قال نعم وبقوة، خاصة بين الشّباب، ولكن بالفارسيّة.
ذهبتُ إلى مكتبة، والمكتبات عندهم في المعرض معدة سابقا مفتوحة من الجانبين في الوسط، وأنا أقلب كتبها فاجئني صاحبها يحدثني بالعربيّة، قلتُ من أين: قال من العراق، وهنا اشتريت عنده كتاب الشّهيد الثّانيّ محمد صادق الصّدر من خلال لسان تلميذه اليعقوبيّ، وأخبرني عندهم تخفيض لكلّ كتاب عشرين بالمائة، وعليه قال لي قيمة الكتاب كذا، وبعد التّخفيض قيمته كذا، ثمّ قال لي اذهب بالفاتورة عندما تنتهي إلى إدارة المعرض، وحسب ما فهمت منه أجد تخفيضا أكبر، كذا فهمت، ثمّ أخذنا الحديث عن عمان، وكان يحب عمان كثيرا!!!
ذهبتُ إلى مكتبة أخرى ووجدت فيها كتبا فلسفيّة إيرانيّة مترجمة إلى العربيّة، وعندهم مجلات فلسفية باللّغة العربيّة ولكن للأسف لا تصلنا!!
وهنا جاءني شاب في بداية العشرين، وظلّ يترجم له، فتصورته يعمل هنا، فأخذت مجموعة، ولما أردت محاسبته قال أنا لا أعمل هنا، ولكن وجدتك لا تعرف الفارسيّة وأردت خدمتك، قلت له من أين: قال أنا من البحرين أدرس في قم، وهنا انتظر زميلي، والمشكلة الّتي واجهتها أنني لا أملك عملتهم الرّيال حينها لأنني صرفت ما عندي، ويسمون الرّيال الخمينيّ، وعندي دولارات، لكن صاحب المكتبة رفض أخذ الدّولارات!! وسألتهم عن أقرب صراف، قالوا: عند الحرم، أي مزار فاطمة المعصومة، سبق الحديث عنه في الحلقة الثّانية.
كذلك وجدت مكتبة متخصصة لكتب السّيد كمال الحيدريّ، واشتريت الكتابين الأولين في مشروعه محوريّة القرآن سبق الإشارة إليهما، كذلك توجد كتب متخصصة للقرآن والأدعية في طبعات أنيقة!!
والمعرض ليس صغيرا، ومزدحما بالزّوار، وهنا أنهيتُ زيارتي له لضيق الوقت، ولقرب موعد العشاء مع الميرزائيّ…
جلسة حواريّة على مائدة العشاء عند العلامة الميرزائيّ
لما رجعتُ من المعرض جاءنا الأخوة وقالوا صاحب الأجرة ينتظرنا في الأسفل، نزلتُ وكان في الأسفل أبو عمار وأبو يوسف كمال اللّواتيّ.
أخذنا صاحب الأجرة إلى مكان في السّوق، وهناك لحق بنا سماحة الشّيخ الميرزائيّ بسيارته، وكان معه الأستاذ والمفكر المغربيّ إدريس هاني، وقد شارك في مؤتمر القدس في طهران، والّذي شارك فيه أكثر من سبعين وفدا من العالم، وقد قرأتُ في جريدة الوفاق الإيرانيّة النّاطقة باللّغة العربيّة عن مشاركة الوفد العمانيّ في المؤتمر برئاسة الشّيخ خالد بن هلال المعوليّ رئيس مجلس الشّورى، وذكرت شيئا من كلامه، والمؤتمر ذاته تحت رعاية السّيد آية الله الخامنائيّ، وحضره الرّئيس روحانيّ رئيس الجمهوريّة الإيرانيّة.
ورأيت الجريدة كثيرا ما تذكر عن الشّأن العمانيّ، وخاصة عن زيارة روحانيّ لعمان، وزيارة أمير الكويت للسّلطنة أيضا، وعن معرض الكتاب في مسقط، ومقالات مخصصة عن السّلطنة، رغم قلة عدد أوراق الجريدة!!
نزلنا من سيارة الأجرة وذهبنا مع الميرزائيّ في سيارته، وهنا ذهب بنا سماحته إلى مطعم في قمة الجمال والنّظافة، وكان الجو باردا جدا، إلا أنّ القاعة الكبرى مغلقة ببلاستيك أو زجاج شفاف، كأنّك تعيش في حديقة المطعم، ويوجد فيها آلات التّسخين عن طريق الغاز، لذا لا تشعر بالبرد.
وفي الجلسة لحق بنا الأستاذان أحمد راحدار، وحبيب الله بابائيّ، والأخير كان قبل أسبوعين في السّلطنة.
والجلسة تضمنت جوانب عديدة، وناقشنا لمدة ساعتين محاور متعددة، لما يمر به العالم الإسلاميّ اليوم من تحديات يجب على الجميع الوقوف يدا واحدة في ظلّ دعوات العنف والكراهيّة، مع مراجعة الذّات.
وفي آخر الجلسة طرحت ما يشاع في إيران في قضيّة زواج المتعة، وأنّه العهر الخفيّ باسم الدّين، فبين الميرزائيّ أنّ ما يشاع ليس صحيحا، والهدف منه التّشويه أكثر منه ذكر الحقيقة.
فزواج المتعة لا يحصل هكذا، فلابدّ من عقد وشهود ومحكمة، وفسخه لابدّ من عدة، وهو لا يختلف عن الزّواج الدّائم إلا في الميراث، فلا يرث أحد الزّوجين الآخر في الزّواج المؤقت، والولد ينسب إلى الأب تماما كالدّائم، وللمرأة حقوقها الكاملة.
على أنّه العادة لا يتقبل هذا في العرف العام إلا عند المرأة المطلقة أو الأرملة، وبعض الشباب يتزوجون في البداية زواجا مؤقتا ليتعرفون على بعضهم، دون ممارسة الجنس، ثمّ يحولونه إلى دائم، ولا يكون في الأمرين إلا في المحكمة وشهود وإشهار!!
وقال زواج المتعة هو إسقاط حق الدّيمومة، وهذا ما أجازه بعض الفقهاء من غير الشّيعة كزواج المسفار، أو إسقاط حق السّكنى كزواج المسيار!!
ثمّ عندهم جرى العرف والقانون أنّه من حق المرأة اشتراط أن لا يتزوج عليها زوجها لا مؤقتا ولا دائما!!!
ولا يمكن بحال في الفنادق أو الشّقق أن يدخل رجل مع امرأة في غرفة واحدة إلا بأوراق عرفيّة وقانونيّة تثبت الزّواج، وهذا ما وجدته في تونس العام المنصرم، وكذا في الجزائر كما أخبرني بعض الأخوة الجزائريين.
وفي الجلسة تناولنا العشاء فالمشاوي بأنواعها والمشروبات الطّازجة والحلويات واللّبن والشّاي، والسّكر عندهم في أنواع متعددة وبألوان مختلفة، منه على شكل مكعبات، ومنه مجمد في خشبة صغيرة كخشبة الأيسكريم عندنا، ومنه كالّذي عندنا السّكر المطحون.
وفي نهاية اللقاء ودعنا الأستاذين أحمد راحدار وحبيب الله بابائيّ، وفي الطّريق ذكر أحد الأخوة لمقطع جديد لشيخ شيعيّ كبير في السّن يُسيء إلى الشّيخين أبي بكر وعمر، وهنا غضب الميرزائيّ، وقال هؤلاء مشكلة عندنا، يشوهون ويزيدون في الفجوة بين المسلمين، علما في إيران القانون يجرم اللّعن والإساءة إلى رموز المسلمين وغيرهم.
وفي الطّريق سألته عن الطّرق في قم وصعوبة السّياقة فيها، وقال هذه مشكلة تحيرني كثيرا، فالمناطق الّتي يغلب فيها التّيارات العلمانيّة أكثر نظاما ونظافة وتقيدا بقوانين الطّرق، بخلاف الأماكن الدّينيّة والمقدسة، مع أنّ الإسلام يأمر بذلك، إلا أنّك تجد في الواقع العكس، ممّا يتطلب علينا مراجعة أدبياتنا والخطاب الدّينيّ عندنا.
وصلنا النّزل، وودعنا سماحته والأستاذ هادي، واكتشفنا أنّ الأستاذ هادي يسكن عندنا في نفس الفندق.
وهذه اللّيلة لم نمارس رياضة المشي لرجوعنا متأخرين، ولأنّ الأستاذ أبا عمار طائرته فجرا، فلابدّ أن يخرج من قم الواحدة والنّصف، ولم يبق له إلا الوقت القليل.
هنا أخذنا قسطا من الرّاحة، والأصل أنّ السّيد عباس يريدنا أن نتناول الفطور في بيته، فجاءني الأستاذ أبو يوسف كمال، فأخبرته الأفضل نعتذر له؛ لأنّه لا طاقة لنا من الأكل وجنوده، وهنا أعتذر له أبو يوسف، ومع هذا رافقنا صباح اليوم في السّوق لشراء بعض المكسرات….
التّسوق والرّجوع إلى الوطن
كما أسلفتُ أنّ أبا عمار سبقنا بالرّجوع إلى الوطن لارتباط عائليّ، فقد خرج من قم السّاعة الواحدة والنّصف ليلا؛ لأنّ طائرته فجرا.
بعد الفطور وقراءة الجريدة قمتُ أكتب بعض المذكرات، وهنا اتصل بي كمال أنّ السّيد عباس موجود وسيفطر في المطعم؛ لأنّ الأصل نفطر معه في بيته فاعتذرت لهم، فقرر السّيد كمال أن يفطر معنا في الفندق، ولكن سبقتهم إلى الفطور لتعودي أفطر مبكرا.
ثم نزلت بعد فترة ووجدت الأستاذين السّيد عباس وكمال في الأسفل، وقد وفر لنا السّيد عباس سيارة!!
ذهبنا إلى سوق المكسرات بالجملة، وهو سوق كبير، يبيع مختلف أنواع المكسرات من فستق وجوز وغيرها بالجملة، ويبيع أيضا بالكيلو، وهي طازجة، يقومون بتنظيفها وفرزها في أكياس كبيرة.
ويقولون هذه الآن واصلة وهي طازجة، وفعلا عندما تتذوقها تجد لذة ليست كالّتي عندنا، ويبيعون الزّبيب، وله جمال كبير في تذوقه وأكله.
والمكسرات عندهم ليست غالية في الجملة ولا بالتجزئة، والتّاجر لو اشترى من عندهم وباعه في الخليج لاستفاد كثيرا، خاصة أنّ الخليج قريب إيران، وممكن شحنه عن طريق البحر!!
أمّا الزّعفران فيبيعونه بثمن مرتفع، ولكن مقارنة بسعرنا يظلّ منخفضا، وعموما على شدة الحصار على إيران إلا أنّك تجد الحياة طبيعية، والنّاس معتمدون على أنفسهم، والكلّ يعمل صغيرا وكبيرا، ولا تجد – كما أسلفنا – متسولا يمدّ يده، وتشعر بأنّ الحياة طبيعية جدا، وبأنّهم معتزون بأنفسهم، وهذا لا يعني عدم وجود معارض لسياسة النّظام الحاليّ، ومع هذا تجد الجميع متكيفا مع الوضع!!
ومع هذا هناك من المشاريع موقفة لسنوات، كتكملة مشروع القطار، حيث أنّ صوت القطار يؤذي النّاس لكبر المدينة واتساعها يوما بعد يوم، فأرادوا إخراجه بعيدا عن المباني، وكذا بعض الجسور، حيث يعملون ببطئ؛ لأنّهم يقدمون حاجات النّاس الضّروريّة، ولكي يستمر التّوازن الاقتصاديّ في المجتمع!!
بعدها ذهبنا إلى حلويات إيران، والّتي تسمى بسوهان، وهم يصنعونها بأنواع مختلفة، وأشكال متنوعة، وليست بغالية، واشترينا مجموعة منها!!
ثمّ ذهبنا إلى محلات بيع الكعك والأخباز، فهم يصنعون الخبز على أشكال عجيبة، وكذلك الكعك والمعجنات!!
وأخيرا رجعنا إلى الفندق لنستعد لصلاة الظّهر والعصر جمعا، ثمّ النّزول الواحدة والنّصف، فنزلنا قبل الموعد، ووجدنا السّائق الّذي أعده الأستاذ حب الله ينتظرنا، وهو في قمة الخلق!!
وفي الطّريق ألقينا النّظرة الوداعية على قم لعلنا نعود إليها، ورأينا تحدي الحياة، والفرق بين زيارتي لقم 2008 والآن فرق كبير جدا، فالعمران في تزايد، والطّرق تتوسع، والمدينة تمتد بصورة أكبر.
والعمارة في قم تصميم عربي خلاف مناطق بعض الشّمال، ولما تعيش في قم أو طهران أو أصفهان فكأنّك تعيش في مدينة عربيّة!!
والطّريق بين قم وطهران يمر في صحراء، وهو طريق سريع من ثلاث حارات، ويأخذون للسّياقة فيه مبلغا بسيطا، وللشّاحنات طريقها الخاص.
وفي الطّريق مررنا على بحيرة مالحة جدا، وأخبرونا أنّ الشّاة كان يرمي بعض المعارضين في هذه البحيرة من الأعلى ليموتوا فيها!!
وصلنا المطار تقريبا قرب الثّالثة عصرا، وهنا كان المكان فاضيا، وبسهولة وجدنا الطيّران العمانيّ فارغا، ووجدنا في المكان نفسه الدّكتور محسن اللّواتيّ، أحد المتخصصين في جانب الجراثيم والميكروبات سابقا بالمستشفى السّلطانيّ، ومعه زوجته وأمّه، والرّجل في قمة الخلق والتّواضع.
ذهبنا إلى قاعة الانتظار، ووجدته في تصميمه داخليا يشبه مطار ميونخ في ألمانيا، فأخذنا وجبة سريعة، ثمّ ذهبنا نتمشى في السّوق الحرة.
وبعدها جلسا في الكراسيّ، وفجأة امتلأت بالنّاس، فإذا بنساء كبيرات في السّن، فلعلهن أتين للزّيارة، والعديد يذهب إلى مشهد لأنّ فيه مزار الإمام علي بن موسى الرّضا، الإمام الثّامن عند الشّيعة الإماميّة، ومشهد ثاني أكبر مدينة بعد طهران في إيران!!
المهم أنّ النّسوة لم يجدن مكانا في هذه القاعة، فهنا طلبت من الأستاذ كمال أن نترك المكان لهن، ولما طلبن منهن رفضن في البداية، ولكننا قمنا، والطّريف كنت احمل كيسا فلمّا حملتها في الأعلى تمزق الماسك، فتعوذن من الحسد، وأتين بجملة معناها الله يصرف عنك عين الحسد….
هنا ذهبنا إلى قريب دخول قاعات الطّيران، وكانت البوابات 11 و12 و13 معا، وحينها كان طيران دبي والطيّران العمانيّ في هذه القاعات، دخلنا القاعات وكانت كبيرة جدا، ومزودة أيضا بالحمامات والمقاهي ومصلى وكراسي كثيرة، والجميل في مطار طهران وغيرها الخراطيم المتصلة بالطّائرة، وهي أسهل من الحافلات النّاقلة إلى الطّائرة!!
وكانت الطّائرة أكثر ازدحاما، وكان العديد من لبنان، وهم غالبهم من الرّحلات المحولة، فمن طهران لمسقط إلى بيروت، ويوجد بعض العمانيين والهنود وشرق آسيا والإيرانيين!!
وعلى ذكر شرق آسيا وجدت بعض النّاس في قم عيونهم صغيرة، فتصورت يعملون هنا، فقالوا لي هؤلاء إيرانيون، حيث إيران ممتدة إلى أفغانستان وأذربيجان وأرمينيا وتركيا والعراق وباكستان وتركمنستان، لذا تجد العديد من الأعراق يجمعهم اللّون الأبيض في الجملة!!
أقلعت الطّائرة الخامسة والثّلث عصرا، ووصلنا مطار مسقط الثّامنة مساء، وأنهينا الإجراءات، وتناولنا الحقائب، فأردت توديع الأستاذ كمال لأنّ أجرة المطار يسرت مع غلاء سعرها قليلا، فتوصلك أينما تريد دون تكليف لأحد، ومع هذا أصر الأستاذ كمال على توصيلي لأنّ ابنه ينتظرنا في الخارج.
وصلت البيت في الموالح الجنوبيّة السّاعة التّاسعة مساء، وهنا نصل إلى نهاية الرّحلة وصفا.
وقفة مصارحة
تحدثنا في هذه الرّحلة كجانب وصفي في الجملة، وكما رأينا الود الفطريّ بين النّاس، بعيدا عن منغصات السّياسية، وعداء المتعصبين من المذاهب.
هذا الأمر رأيته العام الماضي عندما زرتُ الحجاز والقصيم والرّياض، والتقيت ببعض شيوخ المملكة ممّن يحسبون على التّيار السّلفي؛ فرأيت النّاس على الفطرة، لا كما يصوره لنا المتمذهبون والمتعصبون للمذاهب!!!
إنّ مشكلة المتعصبين يصورون الآخر تصويرا سوداويّا، ويجعلون من الحبة قبة، فيحصرون الحق في ذواتهم، والنّجاة في دائرة مذهبهم، فمن وافقهم رفعوه ولو كان مخالفا لمنهجهم، ومن نقدهم جعلوه في أسفل سافلين!!
ومن الأسئلة الّتي وجهت إليّ في الجلسة الحواريّة في مؤسسة بيت الملليّ ما علاقتكم بالمملكة العربيّة السّعوديّة؟ فأجبتهم علاقتنا بالمملكة علاقة إنسان مع أخيه الإنسان، فضلا عن العروبة والثّقافة والأخوة والدّين؛ بل بيننا رحم ومصاهرة، ليس وليد اليوم، فجدي أنا شخصيّا عاش في المملكة العربيّة السّعوديّة مالا يقل عن خمسة وأربعين عاما….
ثمّ قلت لهم: علاقتنا مع المملكة هي ذاتها علاقتنا مع إيران، فأنا لا أنظر إلى الإيرانيّ الشّيعيّ أو السّنيّ بقدر ما أنظر إلى الإيرانيّ الإنسان، وعلاقتنا بإيران أيضا علاقة أخوة ونسب وجوار!!!
إنّ مشكلتنا كما أسلفتُ مع التّعصب المذهبيّ الّذي يلغي الآخر، ثمّ مع تبعية السّياسة، وهنا لابدّ أن يتحرر عقل الإباضيّ والزّيديّ والسّنيّ السّلفيّ والأشعريّ والماتريديّ والشّيعيّ الإماميّ من السّياسة ومصالحها!!!
وهذا ليس لعالم الدّين فحسب؛ بل حتى على مستوى المفكر والمثقف بما يشمل كلّ الخطابات الدّينيّة والثّقافيّة والفكريّة وغيرها!!!
لقد قال العلامة ابن باز ت 1999م – رحمه الله تعالى – كلاما جميلا عن السّادة الزّيديّة، وللأسف لما ساءت العلاقة مع اليمن ساء الكلام عن الزّيديّة!!
وأنت عندما تقرأ مصر في بداية القرن العشرين وترى التّناغم الكبير بين المفكر جمال الدّين الأفغانيّ ت 1897م وهو محسوب على الأشهر بانتمائه الشّيعيّ الإماميّ وقد نادى بفكرة الوحدة، حيث تناغم مع الإمام محمد عبده ت 1905م المحسوب على الانتماء السّنيّ المعتزليّ وقد نادى بفكرة التّقريب، ممّا ولدا مجلة العروة الوثقى.
كذلك تناغم الإمام أبو إسحاق أطفيش الإباضيّ ت 1965م مع محب الدّين الخطيب السّنيّ السّلفيّ ت 1969م، والّذي أعان كلاهما الآخر، وقد شارك أطفيش في تحقيق كتاب تفسير القرطبيّ ت 671هـ وهو مالكيّ المذهب، كذلك محب الدّين الخطيب أعان أطفيش في مجلته الشّهيرة المنهاج!!!
أيضا تناغم العلامة السّنيّ الشّافعيّ محمود شلتوت ت 1963م مع العلامة الشّيعيّ الإماميّ محمد تقي القميّ ت 1990م، وقد ناب الأخير عن آية الله السّيد حسين البروجرديّ ت 1961م في الدّعوة إلى التّقريب بين المدارس الإسلاميّة، وفي عام 1949م أصدروا مجلة رسالة الإسلام حتى وقفت سنة 1972م بعد إصدار ستين عددا.
ولقد عاش سماحة الشّيخ طالب الرّفاعيّ الشّيعيّ الإماميّ والّذي يعيش الآن في أبو ظبيّ مع عشرات العلماء السّنة في مصر، وعلماء السّنة في مصر ساهموا بشكل كبير في نشر كتب الشّهيد الأول محمد باقر الصّدر ت 1980م، خاصة كتاب فلسفتنا، كما يشير بذلك الرّفاعي في أماليه الّتي دونها رشيد الخيون!!
كذلك تناغم أيضا العلامة الإباضيّ إبراهيم بن سعيد العبريّ ت 1975م المفتي السّابق للسّلطنة مع العلامة السّنيّ السّلفي عبد العزيز بن باز ت 1999م المفتي السّابق للملكة السّعوديّة، والّذي قال الأول للثّاني في رسالة له: ونخبركم أنّ إخوانكم أهل عمان يقبلون على كتبكم كلّ الإقبال، ويقرؤونها وبراجعونها في مهمات المسائل، وهكذا ينبغي لكلّ من معشر المسلمين، ونسكت عما بيننا من خلاف في المسائل البسيطة، وإنّ الإسلام يجمعنا، والحق هدفنا، وجميع أعداء هذا الدّين القويم أعداؤنا، وعلينا جميعاً أن نجاهد عن كيانه، ونذود عن حياضه، والله معنا {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
ولولا ضيق المقال لأتيت بعشرات الأمثلة للتّناغم بين المسلمين، فالجزيرة لم تعرف يوما هذا إباضيّ أو سنيّ أو شيعيّ، وكذا اليمن والعراق، فعاشوا بينهم في حب وسلام، حتى خربت المذهبيّة والسّياسة ما خربته، فضاع العرب، فما بقي لنا، فأين عراق العروبة، وأين يمن الحكمة، وأين شام الجمال والتّعدد الدّينيّ، وأين ليبيا وتونس والسّودان والصّومال، فما بقي إلا القليل، أم يريد السّياسيون والمتمذهبون القضاء على ما بقي!!
إنّ السّياسة لا يهمها إلا مصالحها، وإنّ أمريكا وإسرائيل لا يهمهم العرب ولا إيران ولا تركيا ولا غيرها، فبالأمس سقطت العراق، وإذا سقطت إيران سيسقط الخليج، وقد سبق أن سقطت فلسطين، ففوضى الشّرق أكبر مصلحة للعدو، وما تقوم به القنوات الطّائفية المتضرر منه المسلمون جميعا!!!
والمصالح السّياسية متقلبة، إلا أنّ الإنسان ذاته واحدة، فلطالما حلمنا أنّ أن نجد الإنسان العربيّ مكرما كغيره، وهكذا الإنسان الفارسيّ والتّركيّ وغيرهم!!
إننا نشعر بعزة عندما نسافر إلى دبيّ أو تركيا أو إيران أو ماليزيا أو أندونيسيا، ونرى الإسلام يعاصر الأمم، فنرجو ذلك قريبا ونحن نسافر إلى مصر والعراق واليمن وسورية وليبيا وتونس والسّودان والصّومال وغيرها، لنرى الإنسان العربي يساهم في البناء لا في الهدم والإفساد في الأرض!!! وكذا الحال في باكستان وأفغانستان وغيرها!!!
ثمّ هناك مشكلتان مشكلة التّدخل السّياسيّ، ومشكلة التّبشير المذهبيّ، أمّا التّدخل السّياسيّ فينبغي أن يرفضه الجميع، من أيّ دولة كانت ولو وافقت المذهب والتّوجه!!
أمّا التّبشير المذهبيّ فلا أدري ما فائدته، أليس الجميع يوحد الله، ويؤمن بمحمد وبأنبياء الله، ويستقبلون قبلة واحدة، ويعملون الصّالحات، فلا معنى من التّبشير الشّيعيّ في مصر، ولا معنى من التّبشير السّني في الأماكن الشّيعيّة في إيران، لنترك النّاس على حالهم، فهذه نيجيريا كانت أمّة واحدة، فلما دخلها التّبشير المذهبيّ أصبحت أمما متناحرة!!!
ثمّ هذه الأموال والّتي تهدر في التّبشير هلا استثمرت في البناء والعمارة، وتحقيق كرامة الفقير واليتيم والمشردين في الأرض بسبب الحروب والأعاصير!!
من حق الإنسان أن يبلغ عن فكره؛ لكن أن تهدر الأموال في التّبشير لا معنى له!!!
ولهذا أرجو من الدّول الإسلاميّة والحوزات الدّينيّة تدريس جميع المذاهب في جامعاتها وكلياتها وحوزاتها لنفهم الآخر!!!
ولا بأس من نقد الذّات والغير نقدا علميا، ومجاوزة الماضي لنعيش في الحاضر!!!
ولابدّ من الخلطة والتّواصل، وهذا ما اقترحته للأخوة في قم، فليأت الجميع حتى السّلفيّة إلى قم لفهم الشّيعة، وهكذا في باقي بلدان المسلمين!!!
وأقول بصراحة أنا ضدّ التّدخل الإيرانيّ في الدّول الأخرى، ولكني لست ضد الإنسان الإيرانيّ، فلا أقطع علاقتي مع إيران سنة وشيعة وغيرهم لخلاف سياسيّ أو تعصب مذهبيّ، وصدق الله تعالى عندما قال: إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم.
وختام هذه الحلقات أوجه شكري لمن تواصل معي من العراق ومصر والشّام وبلاد المغرب وبريطانيا والخليج من المملكة والبحرين، حتى طلب بعضهم إخراجها في كتاب مستقل، ولكن ليس الآن وقته، وطلبهم في تجميعها في ملف واحد سيكون الغد بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
[1] بدأت كتابة المذكرات في قم بالجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة 23/2/2017م، وأنهيتها في الموالح بمحافظة مسقط/ سلطنة عمان يوم الثّلاثاء 7/3/2017م.