مقال كتبته بعد الجدل القائم نتيجة تطبيع دولة الإمارات العربيّة المتحدة مع إسرائيل، ونشر في شؤون عمانيّة 1442هـ/ 2020م
القضيّة الفلسطينيّة من القضايا الشّائكة والمعقدّة الّتي تداخلت حولها العديد من الأمور، ولا زالت تتداخل يوما بعد يوم، وحديثي عن هذه القضيّة ليس من باب الخبير السّياسي، ولا ردّة فعل للحدث الأخير إيجابا أم سلبا، فقد سبق أن كتبتُ حول هذه القضيّة أكثر من مرة، ولكن هي قراءة متواضعة لما تأملته في هذه الأيام من تغريدات ومقالات وبيانات.
في نظري إشكاليّة القضيّة الفلسطينيّة تعود إلى ثلاثة محاور رئيسة: أصل المقدّس، والتّفكك الفلسطيني الدّاخلي، وتشويه المفاهيم.
أمّا أصل المقدّس والّذي يتمثل في أنّ المقدّس الحقيقي هو الإنسان وليس الحجر، فالحجر مقدّس إضافي لنصوص خارجيّة أضفت إليه قدسيّة ما، كان المقدّس أرضا أم دور عبادة أم جبلا أم حائطا، أمّا الإنسان فقدسيّته ذاتيّة، أيّا كان دينه ومذهبه وتوجهه الفكري والسّياسي، ووضعه الاجتماعيّ والعشائريّ، وفي فلسطين قبل أن نتحدّث عن مقدّسات الأديان الماديّة فنحن نتحدّث عن الإنسان الفلسطينيّ، والّذي تكالب عليه الظّلم المعنويّ منذ وعد بلفور، ثمّ أضيف إليه الظّلم المادي من تهجير واغتصاب أرض منذ عشرينيات القرن العشرين، ومن ثمّ نكبة 1948م وحتى اليوم، فهذا الإنسان كان مسلما أم مسيحيّا أم يهوديّا أم سامريّا أم غيرهم وقع عليه الظّلم ولا يزال يقع، والله تعالى يقول: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج/ 39 – 40]، حيث اغتصبت أرضه، وأخرج بغير حق، فضلا عن المجازر والدّماء والتّشريد في الأرض!!
فليست القضيّة قضيّة المسجد الأقصى وكنيستي المهد والقيامة، وحائط المبكى، وجبلي جرزيم وصهيون أكبر من قضيّة هذا الإنسان، والّذي ينبغي للعالم أجمع أن يقف معه كإنسان وقع عليه ظلم من قوى كان هدفها التّخلص من فئة لاهوتيّة متعصبة، فتضرر بذلك حتى اليهود أنفسهم، كما وقع الظّلم على باقي الأديان والتّوجهات الأخرى، والغالبيّة من المسلمين لكون الكثرة لهم هناك، ولو كانت الكثرة للمسيحيين أو السّامريين لكان ظلما لا يجوز الوقوف معه، وقد كان الجميع قبل النّكبة يعيش بحريّة، ويمارس طقوسه وعباداته، فلم تمارس العنصريّة ضدّ أي أحد بحال، فالقضيّة في الحقيقة قضيّة إنسانيّة مقدّسة لذات الإنسان، ومتى وقع الظّلم عليه وجب حمايته ونصرته بأيّ شكل من الأشكال.
وأمّا التّفكك الفلسطيني الدّاخلي فهذا من أكبر الأسباب الّتي جرّت إلى النّظرة الدّونيّة لحالهم، فقوّة الذّات توجب احترام الآخر، وتفكك البيت من الدّاخل يسهل اختراقه، فكلّ أدرك اليوم تراجع القضيّة الفلسطينيّة في الحسّ العالمي عموما، والعربي والإسلامي خصوصا، فلمّا كان البيت الفلسطيني متحدّا في كلمته، مناضلا في قضيّته، لم تفرّقه التّوجهات اليمينيّة واليساريّة، وكانت الغاية التّحرير وإرجاع الحق؛ كان العالم على ضعف الإعلام حينها، يخرج مناصرا له، ثمّ لمّا ضعف وتفرق بدأت بعض الحكومات العربيّة بالتّراجع على خجل، واليوم من يقرأ التغريدات يجد أصواتا تراجعت، أو هتافات هنا وهناك تناصره لكنّها تخفت بعد أيام، وفي هذا درس للفلسطينيّ أنّ قوّته في ذاته ووحدته وتقوية بيته معرفيّا وماديّا قبل غيره، واعتماده على الآخر ولو كان قريبا قد يتركه في أقرب فرصة، وقد يكون قربه لتحقيق أغراض سياسيّة أو طائفيّة لا أكثر، إلا أنّ العديد من الشّعوب لا زالت صادقة ووفيّة، ومدركة لأحقية الفلسطيني كإنسان في أرضه، وفي هذا فرصة للبيت الفلسطيني أن يراجع أوراقه من جديد، وأن يترك خلافاته جانبا رغم المأساة والمعاناة، وأن يستثمر أوراق النّصر لصالحه، وما يحدث من تطبيع علني في الحقيقة لصالحه هو، بدل الضّحك عليه في القمم والمؤتمرات، واستغلال قضيّتة لمصالح شعبويّة أو انتخابيّة أو ذاتيّة!!!
وأمّا تشويه المفاهيم فتتمثل في أربعة: التّطبيع، والصّلح، والهدنة، والسّلام، فأمّا التّطبيع كما في البيان الصّادر عن مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكيّة في الأرض المقدّسة والّذي نشره موقع Zenit هو: “إقامة علاقات مع دولة إسرائيل وأجهزتها ومواطنيها كما لو أنّ الوضع طبيعيّا، ويعني بالتّالي تجاهل حالة الحرب القائمة، والاحتلال والتّمييز العنصري، أو هي محاولة للتّعتيم على ذلك أو لتهميشه عن قصد”، وقد وضع البيان المعاناة الّتي يعانيها العربي المسلم والمسيحي والسّامري واليهودي في إسرائيل نفسها، “فكلّ المواطنين اليهود والعرب متساوون في الحقوق من حيث المبدأ؛ ولكن في الواقع هناك تمييز ضدّ المواطنين العرب وبطرق مختلفة، في التّنميّة والتّربيّة والوظائف، وفي تقديم الدّعم المالي للبلديات العربيّة”، وأمّا “في دولة فلسطين بالرّغم من وجود السّلطة الفلسطينيّة ما زال الفلسطينيون يعيشون حياتهم تحت احتلال عسكري، يشمل كلّ حياتهم اليوميّة، فهناك المستوطنات وبناء الطّرق، وشرعنة الأبنية الإسرائيليّة على أراض فلسطينيّة خاصّة، والمداهمات المتكررة للبيوت، والاغتيالات، والاعتقالات التّعسفيّة، والعقاب الجماعيّ، ومصادرة الأراضي، وهدم البيوت، والحواجز العسكريّة الّتي تحدّ من حرّية الحركة، وتضع العديد من العقبات أمام النّمو الاقتصادي، ومنع لم شمل العائلات، الّذي هو امتهان لحق طبيعيّ لأعضاء العائلة”، لهذا يرى البيان أنّ حياة الفلسطينيين في المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي “بعيدة كلّ البعد في أن تكون حياة طبيعيّة، ومن ثم التّصرف كأنّ الأمور في حالة طبيعيّة هو تجاهل وامتهان لحقوق الإنسان الأساسيّة”، لهذا التّطبيع هو جريمة في حق الإنسان أيّا كان دينه وتوجهه، وإقرار بهذا الظّلم على الحياة الطّبيعيّة للإنسان.
وأمّا الصّلح فهو “إنهاء الخصومة”، أو وقف النّزاع يتبعه قانون ومواثيق تحمي الطّرفين، حيث يؤدي إلى التّصالح بين الطّرفين وفق منافع مؤكدة للفريقين، والهدنة قريبة من الصّلح، أو هي نوع منه إلا أنّها وقف النّزاع على ما هو عليه، والمهادنة تسمى قديما المصالحة، وتعرّف فقها “بمصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدّة معينة بعوض أو غيره”، فالهدنة تأتي بمعنى الصّلح، وتأتي بمعنى أخص له، وتأتي كنوع له، وهذا يدخل في مفهوم السّلم أو السّلام الجزئيّ، لا السّلام الشّامل.
ولهذا لا توجد علاقة أو تشابه بين التّطبيع والصّلح أو السّلام، فبينهما فرق كبير، ثمّ إنّ الصّلح يكون مع طرف له كامل حقوقه الإنسانيّة وهذا كما رأينا شبه منعدم مع الإنسان الفلسطيني، كذلك إن كان ثمّة صلح أو هدنة أو سلام يكون بحضور الطّرفين، وبتحقق الشّروط المتفق عليها، أمّا أن يغيب الطّرف الفلسطينيّ كليّا من المشهد، أو يملى عليه، أو يهمش؛ فهذا لا قيمة له، ومن يحدد ذلك زمنا وشروطا الفلسطينيون؛ لأنّهم المعنيّ بالأمر، وفي حالة انعدام ذلك يكون إمّا لوجود طرف آخر قوي ولن يكون بالشّريطة همّه الجانب الفلسطينيّ، بيد – كما أسلفت – قوّة الفلسطينيين داخليّا تجعل وجودهم وقرارهم وتأثيرهم قويّا خارجيا.
لهذا أرى ما حدث من ردّة فعل شيء طبيعيّ، إلا أنّه ضرورة أن يتمحور العقل العربيّ خصوصا في جانبين: جانب الخطاب، وجانب المصطلح، أمّا الخطاب فحصر القضيّة في الجانب الإسلاميّ اللّاهوتي الضّيق لن يؤدي إلى نتيجة شاملة؛ لأنّ لباقي الأديان نصوصهم، لهذا لابدّ من الرجوع إلى ماهيّة الذّات، وإنسانيّة الحقوق، بحيث يكون الخطاب الموجه للعالم أجمع بلغاته خطابا إنسانيّا لأمّة وقع عليها الظّلم البيّن والواضح، والجانب الإنساني في الطّرف الفلسطينيّ قويّ جدّا إذا ما أحسن استثماره؛ لأنّ الأنسنة والظّلم لا يجتمعان بحال، فالأول ذاتيّ والثّاني عرضيّ، فإذا دخل العرضيّ وجب الرّجوع إلى الذّات وترك ما عداه أيّا كان مصدره وتأويله ولو مقدّسا عند فئة من النّاس.
وأمّا المصطلح فلابدّ من وضع المصطلحات في مكانها الصّحيح، ولابدّ من دراسات تعطي قواعد لها تأثيرها على العقل الجمعيّ، وبالتّالي مع مرور الزّمن سيكون تأثيرها قويّا على القرار السّياسي، فالحركة السّياسيّة الصهيونيّة بدأت بفكرة في أواخر القرن التّاسع عشر، ثمّ تحوّلت إلى واقع، فوجود منطلقات فكريّة مؤصلة جديدة في ظل الواقع الطّائفي المفرق، والسّياسيّ الضّعيف؛ ضرورة، بدل العواطف الّتي تنطفئ بعد يوم أو يومين، إن لم تتحول إلى واقع معرفيّ يقدّم بديلا يتحوّل إلى مشروع سياسيّ وفكريّ يرجع لصاحب الحق حقّه، ويخاطب العالم بلسان الإنسان ورفع الظّلم عنه.