(1)
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} استخدام لفظة كُتِبَ أي كأن الأمر قد انتهى وقضي، فلا مكان للخيرة فيه، كذلك مجيء حرف على في كلمة: عَلَيْكُمُ، فهي تفيد أمرين: الإلزام، والعلو، فأمر الصيام أمر إلزامي لا نقاش فيه، وهذا الأمر الإلزامي جاء على صيغة المجاز [كُتِبَ] كما عند الأصوليين إلا أنه يفيد الإلزام لأنّه من قبل الله سبحانه وتعالى صاحب الأمر والحكم: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} .
(2)
نجد الخطاب في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} موجها إلى الجماعة حيث استخدم واو الجماعة في آَمَنُوا، والضمير المتصل (كُمُ) والذي جاءت بعده ميم الجمع، وفيه دلالة على الخطاب الجمعي، فالجماعة المؤمنة بمجموع أفرادها مطالبة بهذا الأمر، لتكون المدارسة والمراجعة جماعية في العام مرة واحدة.
(3)
(أياما معدودات) أياما ظرف لفعل منصوب محذوف أي صوموا، ونعت الأيام بأنها معدودة، أي تُعدّ بالأصابع، فهي سرعان ما تنقضي، ما إن يستقبلها المؤمن إلا ويتفاجأ بانتصاف الشهر، فيبدأ العدّ التنازلي، ليفارق الشهر وكأنه ضيف جاء على عجالة من أمره.
وذلك لأنّ رمضان تجسيد لفترة الحياة، فهنا صائم عن المباح، وفي حياته صائم عن غير المباح، وكما أن رمضان أيامه معدودة وتذهب بسرعة فكذلك الحياة، وليس العبرة بعدد الأيام أو السنين؛ لأنّ عمر الإنسان الحقيقي بما ينتج في هذه الأيام لا في عددها!!!
(4)
عند التأمل البلاغي في قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه} نجدها ابتدأت بحرف الجر عَلَى، وهو يفيد في جوهره العلو، وعليه هذا يؤكد أنّ يطيقونه هنا ليست في مجال السعة؛ بل الشدة، والخطاب موجه إلى الجماعة، وهو باقٍ إلى قيام الساعة، لذا أرى يطيقونه من طوّق أي يقدر الصيام مع الكلفة والمشقة كالكبير والعاجز ومن في حكمهم بسبب جهد ومشقة، وأدخل ابن عباس مثلا في الآية الحامل والمرضع، والآية باقية غير منسوخة، وليست مقدرة بمحذوف، لهذا جاءت بعد حكم المرض والسفر، لتبين أن صنفا من الناس يشق عليهم الصيام بغير مرض أو سفر.
(5)
عند التأمل في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يظهر أنّها في موضع الاستثناء من القاعدة، ومع الخطاب الجمعي في كلمة مِنْكُمْ من خلال الضمير المتصل (الكاف) مع ميم الجمع، حيث سُبِقَت بحرف الجر (مِنْ)، وهنا من تفيد التبعيض، أي بعض المجموع، لأنّ الأصل القدرة، والاستثناء شيء طارئ في بعض الجوانب الطارئة، وهنا أشارت الآية إلى جانبين كنموذج وهما المرض والسفر.
فالرخصة هنا فردية ذاتية، والصيام فرضية جماعية، وهذا فيه تقوية العلاقة مع الله، والنظر إلى الله تعالى وحده، فربط الله الاستثناء بذات الفرد، فهو بذاته يقدّر ذلك على نفسه، والله خبير بما تخفيه الصدور، وتكنّه النفوس، وهو بعباده عليم.
(6)
لعل في قوله تعالى: {لعلكم تتقون} بمعنى لكي، أي لكي تحققوا أعظم تشريع للصيام وهو التقوى، ونجد الخطاب يتكرر بصيغة الجمع من خلال ميم الجمع في لَعَلَّكُمْ، وواو الجماعة في تَتَّقُونَ؛ لأن الغاية من التغيير في الصيام يشمل المجتمع بمجموع أفراده في جميع الجوانب تعبديا وتصوريا وسلوكيا وأخلاقيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، والكلّ يشارك في التّغيير.
والتّقوى هي الوقاية مما يضر المجتمع، وأضيفت إلى الله من باب التّعظيم؛ لأنّ الإنسان لا يتقي الله بمعنى يبتعد عنه وإنما يبتعد عما يسخطه، وأي ظلم للمجتمع والإنسان يسخط الله.
(7)
ابتدأ الجزء من قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}، بمن الشرطية، وجعل الجزء لصيقا بالمجموع (تطوع)، كذلك جعله لصيقا بالفدية (خيرا)، وإتيانه بالفعل الماضي أقرب إلى الإلزامية والعادة المعتادة كقاعدة طبيعية، فمجيئه في الماضي فيه إشارات واضحة أنّ هذا سلوك طبيعي في المجتمع المؤمن، فَيَدُ أفراده مرسلة في الخير، ولا تقتصر على الحد الأدنى، بل تنفق ما استطاعت الإنفاق في وجوه البر والمعروف.
ثم إنّ مجيئه في الماضي مقابل الجزاء {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} بينهما تلازم واضح، فالجزاء يكون بعد تحقق الفعل، فكأن من يعمل هذا أو ينشأ في سعيه أو سينشأ فيه لاحقا، فلعلم الله بصدق نيته يثيبه من ثلاث: الأول لا يضيع أجر تقصيره في صيامه، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، والثاني: يثيبه على استسلامه لله بدفع الفدية إن استطاع لها وإن لم يستطع لضيق ما في اليد فالله أيضا عليم بحاله، والثالث: يثيبه على الزيادة فوق المعروف المحدد.
(8)
ختم الله تعالى الآية الثانية من آيات الصيام بلفظة العلم في قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، والعلم أعلى درجات التصور المنطقي، وهو تصور الأمر على حقيقته وماهيته، وجاء الأمر بالفعل المضارع: تَعْلَمُونَ، وذلك لأنّ البشرية كلما ارتقت في الوسائل المدركة للعلم كلما توصلت إلى إدراك الكثير من العلل والأحكام في تشريعات الله سبحانه وتعالى، لأنها من لدن حكيم خبير.
(9)
يقول الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} الإشارة إلى ذكر افتتاح نزول القرآن في رمضان فيه لفتة للعناية بهذا القرآن وتحقيق المراجعة الفردية والمجتمعية من خلاله، ولكن أصبح للأسف القرآن في رمضان أورادا يقرأ بسرعة للإكثار من الختمات، لذا لن نجد بُعْدَ الهداية والبيان والفرقان ظاهرا في شهر الصيام، وذلك لبعد الناس عن التدبر والنظر والتفكر وعرض العمل والتصور على القرآن الكريم.
(10)
يقول الله تعالى في آيات الصيام واصفا القرآن: { هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} وذلك كما أنّ القرآن كتاب هداية، كان في الوقت نفسه أيضا كتاب تبيان وبيان، فآياته تحوي من البينات الواضحات، وتفيض من النورانيات، وهذه البينات تقود إلى أمرين اثنين: الهداية الربانية، والفرقان الواضح، وهذان الأمران هما مربط الفرس لخلاصة الناس اليوم من تناقضات فكرية وتصورية وانحرافات عملية وسلوكية، وتراكمات بشرية ومجتمعية
(11)
يقول الله تعالى في آيات الصيام: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فنجد القرآن يعلق الفعل شهد بمن التبعيضية في مِنكُمُ، وذلك لأن الجميع ليس متمكنا في الإدراك رؤية أو حسابا، فيرى برؤية المتمكن، وإذا جئنا إلى لفظة شهد نجد أنّ اللفظة عامة ومطلقة ودقيقية في الوقت ذاته لتناسب التدرج الزمني، والتنوع المكاني. والقرآن هنا لم يستخدم لفظة نظر أو أدرك أو شاهد أو رأى، وإنما استخدم لفظة شهد، فالشهادة هنا تحوي التعددية، وتشمل القطع بحسب الوسيلة المستخدمة، وكذلك المعاينة والحضور، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، فالوسيلة تختلف والغاية واحدة حسب التقدم العلمي، لأن الشمس والقمر بحسبان.
(12)
يتكرر الإشارة إلى المرض والسفر في الصيام حيث يقول سبحانه: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر}.
وإذا تأملنا في الجزأين نجد التكرار لا لذات التكرار أو رفعا للبس أو بعد شعيرتين مختلفتين؛ بل كلا في موضعه المناسب، فالجزء الأول جاء بعد بيان فرضية الصيام مبينا أحكامه جاءت وفق الفطرة والتيسير من خلال التالي: [أيامه معدودة وسريعة + رخصة الفطر لمرض وسفر + رخصة الفطر عند الطاقة أي الشدة مع الاستطاعة + أفضلية الصوم على الإفطار فيما تقدم]، حيث نلاحظ هنا الإشارة إلى الأحكام الميسرة والملازمة للتشريع، وعليه كان الخطاب في هذا الجزء موجها: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، حيث أتى بعبارة مِنكُم، كما في الطّاقة بلفظة: وَعَلَى الَّذِينَ، وهكذا، مما يدل هنا أنّ الحديث جاء من باب تفصيل الأحكام بعد إجمالية الفرض.
أما في الجزء الثاني فهو أقرب إلى الأحكام الكلية مع القواعد العامة، وعليه كان الأسلوب عاما: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ثم أتبعه بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لتكون قاعدة عامة مطردة في غير الصيام، كالقرآن وهدايته، وإكمال الشيء وعدم بطلانه، والتكبير، وطلب الهداية، بل حتى الدخول في الصيام بالمشاهدة قاعدة في جميع الشهور، وعليه هذا الجزء أقرب إلى القاعدة من الحكم وإن تضمن حكما، لذلك لم يقل الله تعالى هنا: ومن كان منكم مريضا، وإنما قال: وَمَن كَانَ مَرِيضًا …، لتكون قاعدة عامّة، وقانونا يسري في أحكام مشابهة.
(13)
يقول الله تعالى في آيات الصيام: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فالإرادة في حق المخلوق هي: قوة في النفس تمكن صاحبها من اعتماد أمر ما وتنفيذه ، أما في حق الخالق فكناية عن القصد الإلهي في تشريعاته وبنائها على الفطرة.
وعليه نلاحظ الحق سبحانه عبّر بالفعل المضارع يُرِيدُ، وأسنده إلى لفظ الجلالة مباشرة (اللّهُ) للدلالة أنّ اليسر هو مطلب إلهي ذاتي مستمر في جميع التشريعات الربانية، وتعم جميع المخاطبين (بِكُمُ)، وعليه كان هذا الجزء قاعدة مطردة تدخل فيها فروع كثيرة من فروع الشّريعة.
واليسر ضدّ العسر، وهو الأمر السهل الموافق للفطرة البشرية، أما العسر فهو الضّيق والشدة. من هنا شريعة الله شريعة يسر في جميع لوازمها من أوامر ونواهي لا شريعة عسر وضيق وشدّة، وهذا قاعدة تؤخذ بعين الاعتبار، سواء في التقنين الفقهي الخاص، أو في التقنين المدني.
فالمفتي عليه أن يأخذ هذه القاعدة بعين الاعتبار، يقول أبو سعيد الكدمي ت 272هـ : ليس العالم من حمل الناس على ورعه وإنما العالم من أفتى الناس بما يسعهم في الدين.
(14)
يقول الله تعالى في آيات الصيام: ولتكملوا العدة، ولتكملوا فعل مضارع ملتصق بلام الأمر، وهي إحدى وجوه صيغ الأمر الأربعة، والعدة عدة رمضان، إما تسع وعشرن يوما، أو ثلاثون يوما.
واستخدام لفظة الإكمال فيه لطيفة من جانبين: الأول الوفاء بالعقد، والثاني الإتقان، وأما الأول فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، والصيام عقد بين العبد وربه.
وأما الإتقان فلأنه من لوازم الإكمال، لهذا يتدرب الإنسان في جمع أعماله وعقوده على الوفاء والإتقان معا، فهما من ركيزتي الإكمال.
(15)
يقول الله تعالى في آيات الصيام: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فالتْكبِيرُ التعظيم كما في مختار الصحاح للرازي ت بعد 666هـ، وعليه: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أي لتعظموا الله تعالى، ويكون هذا التعظيم على الهداية الربانية في صيام الشهر وإكماله وإتمامه.
والتكبير له معنيان كالذكر في الحج، المعني المعنوي وهو التعظيم المطلق لله سبحانه وتعالى، أي الإخلاص لله، والعمل له وحده لا لرمضان، فرمضان مخلوق زمني ضعيف مفتقر إلى الخالق سبحانه، والذي عظّمه هو الله وحده سبحانه، كالكعبة وعرفات ومزدلفة وجبلي الصفا والمروة مخلوقات مكانية ضعيفة مفتقرة إلى الله تعالى، والمرء يعظّم المعطِّم (اسم الفاعل) وهو الله وحده، لا المعظَّم (اسم مفعول) وإنما يجله لأمره سبحانه، ولولا أمر الله بذلك لما أعطيت لهذه الأزمنة والأماكن أدنى أهمية.
والمعنى الحسي أي عندما يكمل المرء عدة رمضان ويعلن دخول شوال يصرخ المرء بالتكبير تذكيرا للذات والغير بعظمة الله تعالى، فلئن ذهب رمضان وأفل، فإن الخالق سبحانه لا يذهب ولا يأفل، فكما يشكر ربه على إكمال العدّة؛ هنا الشكر مرهون بتكبيره سبحانه وتعظيمه، لذا يفتتح الشهر الجديد بالتكبير والتعظيم له سبحانه.
(16)
يقول الله تعالى في آيات الصيام: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، والشكر كما في مختار الصحاح مادة شكر هو الشُّكْرُ والثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف، وقد شَكَرهُ بشكره بالضم شُكْرا وشُكْرَاناً أيضا، يقال شَكَرَهُ وشكر له وهو باللام أفصح … والشُّكْرَانُ ضدّ الكفران.
ولعل في وَلَعَلَّكُمْ بمعنى لكي، أي لكي تشكروا الله سبحانه وتعالى.
والشكر جانب مقصدي يعم مرافق الحياة جميعا في المسجد والبيت والسوق والمدرسة ومكان العمل والملعب والشارع، وهو ثمرة العبادة {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .
(17)
يقول الله تعالى في عقد آيات الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} نرى مفتتح الآية: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي، إمّا إخبارا عن أسئلة وجهت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، كما يظهر من بعض الروايات، أو إخبارا أريد به الإنشاء وهذا تقوية للخطاب، وبيان لعظمة هذا الشأن.
وإذا في قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ظرف لما يستقبل من الزمان، وهذ دليل على توارد هذا السؤال دون تحديد لزمن، وفي الوقت نفسه تأكيد لعظم هذا القرب الإلهي في كل زمان إلى يوم الدين.
ونلاحظ استخدم الله تعالى لفظة العباد، وأضافهم إليه، فلم يقل: وَإِذَا سَأَلَكَ العباد أو الناس أو قومك أو المؤمنون عني، لأنّ المقام مقام قرب، والعبودية أخص ألفاظ القرب، وإضافتهم إلى الله تشريف لحال هذا العبد أمام الخالق العظيم، ودليل على عظم هذه الجائزة لمن اقترب من الرب الرحيم.
ثمّ إنّه سبحانه وتعالى استخدم في جواب الشرط الجملة الإسمية، لذا اقترنت بالفاء وجوبا فقال: فَإِنِّي قَرِيبٌ، والجملة الإسمية تفيد أمرين: التوكيد والاستمرار، فهنا توكيد في بيان قرب الله سبحانه وتعالى في كلّ زمان ومكان، والقرب هنا قرب رحمة وجلال ومغفرة وتوبة وأوبة منه جلّ جلاله.
والأمر الثّاني الاستمرارية؛ لأنّ الجملة الاسمية ليست متعلقة لا بزمان ولا مكان، فهي أشبه بالقاعدة الدائمة، ولذا أكدّ الله الجملة بأن التوكيد، وجعله ملاصقا للضمير المتصل العائد إلى الذات الإلهية، لبيان عظمة هذا الشأن واستمراريته رحمة من الله وفضل.
(18)
يقول الله تعالى في آيات الصيام: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} حيث نجد هذا الجزء من الآية الكريمة صدّر بالفعل المضارع أجيب وفيه بيان على الاستمراية، أي استمرارية الإجابة والرحمة والقبول منه سبحانه وتعالى، ومجيء إذا في قوله: إذا دعان يعطي للإنسان مساحة للتفكير والاختيار الذاتي دون جبر منه سبحانه وتعالى، لأنّ إرادة المرء اختيارية بلا إكراه ولا جبر.
(19)
يقول الله تعالى في آيات الصيام: {فليستجيبوا لي] حيث نلحظ في هذا الجزء أتى بالفعل المضارع المقرون بلام الأمر، وهي إحدى الطرق الأربع لصيغ الأمر مع فعل الأمر والمصدر النائب عن فعل الأمر واسم فعل الأمر.
فمع أمره سبحانه وتعالى هنا بالاستجابة، إلا أنه جل جلاله جعلها استجابة مستمرة لتكون تصحيحية دائمة، وحضارية شاملة.
ثمّ الاستجابة لله تعالى (لي) وهو قمة التخصيص، ليكون النظر إلى الله، لا إلى المخلوقين والمال والمنصب والذات، وعليه الاستجابة لله تعالى مقدمة على الاستجابة لأهواء الذات، وأنانية الشعوب، واستبداد الحكومات، فهذه لا قيمة لها أمام الاستجابة لله سبحانه وتعالى.
(20)
يقول الله تعالى في آيات الصيام {وليؤمنوا بي} والإيمان بالشيء تصديقه، ولا يوجد ثمرة للشيء إن لم نؤمن به أولا، وبأثره الناتج ثانيا، ولذا النسبة بين الأمرين نسبة جد واجتهاد، وهي المساحة المطلوبة، وبها يكون الأثر والنتاج.
وعليه إيماننا بالله تعالى وفضله، وتجديدنا الدائم للإيمان، وتصديقنا به يعطينا مساحة كبيرة للتنافس في أي خير ذاتي ومجتمعي وأسري وإنساني، لأنّ الثمرة ترتفع بسعة إيماننا …
فيسبوك 1439هـ/ 2017م