بداية نظام الدولة نظام بشري متطور، وليس نظاما دينيا صرفا، بل جاءت رسالات السماء للتنظيم ولم تعطِ صورة نمطية للدولة، وإنما تركت ذلك للعقل البشري، وللزمان والمكان، لأنّ الإنسان متطور في لباسه وعاداته ولغته، ومنها في نظام حكمه.
وعليه توصل العقل البشري اليوم إلى الدولة المدنية القائمة على الحرية والديمقراطية، وهذا أرقى ما توصل إليه العقل الإنساني في نظام حكمه، وهي الفلسفة التي تجاوزت الحكم على أساس الطائفة والمذهب والعشيرة والقبيلة بل اللون والجنس، فتجاوزته إلى نظام قائم على ذات الإنسان وحريته، وحقه في الشراك السياسي والمدني.
والدولة المدنية تقوم على ركنين الأولى مؤسسات العمل المدني والشراك المجتمعي في ذلك وفق عمل مقنن، وقد سبق الإشارة إليه في مقال نشرته في صفحتي، ونشرته أيضا جريدة عمان من شاء الرجوع إليه.
أما الركن الثاني وهو القانون، وهو الذي يهمنا هنا، والقانون في الأصل تعاقدي وفق دستور يستفتى فيه المجموع ليكون وفق فكرهم وعاداتهم وهم أحرار في ذلك، إلا أنّ نقد المادة القانونية متاح للجميع.
والشرائع السماوية أعطت المجال الواسع للتقنين، والفقه الإسلامي مثلا مليء بالمواد القانونية الاجتهادية التي كانت مصاحبة لفترة زمنية معينة.
إلا أن هذا القانون لابد أن يكون واضحا وشاملا للجميع، والأهم من ذلك أن يكون عادلا، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ.
والحق هو العدل بين الناس جميعا، وعليه إن اختل العدل ارتفع القانون، وتحول بذاته إلى تعصبات وتشنجات يظهر أثرها السيء بعد حين.
القانون في الدولة المدنية هو الحاكم، والأفراد والمؤسسات حافظة ومقدسة له، وعليه كان أصلا وحكما بين الناس.
إن أكبر ما تواجهه اليوم الدول العربية في مؤسساتها ليس عدم وجود القانون، بل عدم وجود العدل بين الناس جميعا، لأنّ الناس سواسية أمام القانون.
عندنا والحمد لله تعالى من الطاقات الشبابية القادرة على التقنين، ومسايرة ما توصلت إليه البشرية من مواد عادلة بين الجميع.
وعليه غياب العدل في تطبيق القانون، وإنزاله على فئة دون أخرى، أو التلاعب به لمصلحة سلطات معينة، هذا يتعارض والدولة المدنية.
إن التخلص اليوم في الشرق من الطائفية والمصالح السياسية والفئوية إنما هو بقوة القانون العادل بين الجميع والواضح في الوقت ذاته، والقائم على الدراسات النقدية والاستفتائية، وجعل الوطن والإنسان فوق القبيلة والمذهب والطائفة والذات.
والله تعالى أمرنا بالحكم بما أنزل الله، والله أنزل كتابا يأمر بالعدل والقسط والشورى وتحقيق كرامة الإنسان وعدم الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، ثم أعطى للعقل البشري مساحة كبيرة للنظر والتدبر في آلية التطبيق وفق العصر والمكان، ووفق ما توصل إليه العقل الإنساني من تطور ومدنية.
أرجو أن يدرك الشرق أن المذهبيات ممارسة طبيعية، وتعددية جمالية، وأن الحكم للقانون العادل والجامع بين الكل، فالقانون يجعل الذات البشرية سواء كانت مؤمنة أم غير مؤمنة، كانت يهودية أم نصرانية أم مسلمة، كانت إباضية أم زيدية إم أمامية أم سنية، الكل سواء في قانون واحد عادل لا يفترق بحال.
وأن التقدم والاستقرار في الشرق بالعودة إلى هذا، ليستطيع الناس الإبداع والرقي والشراك في ذلك وفق عمل مؤسسي جامع بين الكل، وهذا ما نرجوه في الشرق ليخرج لنا فلسفة الشام مع منطق العراق وحكمة اليمن مع إبداع دول المغرب ودراسات الخليج ونتاج مصر، ويتخلص الأجيال من ماضي التطرف وحاضر التفرق، وما ذلك ببعيد.
فيسبوك 1436هـ/ 2016م