المقالات الفكرية

القرآنيون البروتستانت الجدد

جريدة عمان 1443هـ/ 2021م

لكلّ ثقافة دينيّة نصّان: النّصّ الأول والنّصّ التّأريخي، والنّصّ الأول يتشكل في وحي مرتبط بالنّبيّ مباشرة، كتب في عصره أو بعد وفاته بفترة، ويعتبر مقدّسا، إلا أنّ هذا النّص يفقد هيمنته وحاكميته مع مرور الزّمن لولادة نصوص تأريخيّة تهيمن عليه في الباطن، مع كونها نصّا ثانويّا في الظّاهر، وكلّما تقدّم الزّمن كلّما تضاعف النّص التّأريخي.

ونشوء النّص التّأريخي مرتبط بأسباب سياسيّة من جهة، وأسباب اجتماعيّة وثقافيّة من جهة ثانيّة، تولدت منها نصوص أخرى من جهة، ونصوص اجتهاديّة من جهة أخرى، فالتّشكل السّياسي، وتوليد ما يدعم حاكميّة السّلطة، ومكانتها اللّاهوتيّة ترتب على ذلك توليد نصوص لها من القداسة بشكل كبير، قد تضاف إلى النّص الأول، وقد تشكل نصّا آخر – وهو الغالب – مضافا إلى النّبيّ أو صحابته أو آل بيته، لهذا نجد النّصوص التّأريخيّة تضاعفت بشكل كبير عند المذاهب المرتبطة بالسّلطة الحاكمة مثلا.

كذلك نجد النّصّ الأول في جملته مجملا، والأحكام الإجرائيّة المتعلقة بالشّأن العام وحياة النّاس قليلة؛ لفتح مجال أكبر للحراك المجتمعي، هذا الأمر تولد عنه رؤى بدأت مبكرا مع مدرسة أهل الرّأي وتقابلها مع مدرسة أهل الأثر، ثمّ تطور مع مدرسة الاعتزال والتّأويل وتقابلها مع مدرسة الصّفاتيين وأهل الحديث، كذلك تشكلت نصوص للفتنة الكبرى وأفضليّة الصّحابة وآل البيت، فتضخمت النّصوص، ثمّ تتحول دائرة الاجتهاد البشريّ، والاختلاف الطبيّعي، من دائرة اجتهاديّة واسعة إلى دائرة نصيّة ضيقة، ومن اختلاف وتعدد بشريّ، إلى مذاهب لاهوتيّة مغلقة.

وساهم في زيادة النّص دخول أمم جديدة في الدّين الجديد بثقافتها ولباسها القديم، كالثقافة الهلنستيّة والغنوصيّة في اليهوديّة والمسيحيّة، هو ذاته ما سيحدث عند المسلمين، كذالك الانفتاح والتّمدد الاستعماري السّياسي إلى أمم أخرى سيحدث التّأثير بشكل كبير، وتداخل الثّقافات الجديدة في النّصّ الثّاني، أو في النّصّ الأول لسبب التّأويل، بجانب ردات فعل الوعاظ بسبب دخول سلوكيات وممارسات لا تتقبلها مجتمعات وهوّيّات أخرى، فصيغت نصوص تحذّر منها، كما صيغت نصوص في فضل البلدان والأعراق وبعض الشّخصيّات التّأريخيّة والسّياسيّة، ونقلت نصوص من الكتب والأديان الأخرى، خصوصا ما يتعلق بالغيبيات وأشراط السّاعة وما يحدث في المستقبل إلى النّص الثّاني.

كما تطوّر الحال من عدم استقلاليّة النّصّ الثّاني بالتّشريع، إلى أنّ أصبح مستقلا بذاته، بل ومهيمنا على النّصّ الأول بالنّسخ والتّخصيص والتّقييد مثلا، وارتبط النّص الثّاني بالرّجال وتجريحهم، ودار وفق مدارات معينة بني عليها السّند، وغلب على المتن.

والمتأمل في المرحلة الأولى من التّشريع يجد النّص الأول هو الحاضر، والنّص الثّاني لا يتعدّى جانب العمل تحت مظلّة [السّنّة العمليّة – البيان – عمل المسلمين – عمل أهل المدينة بكونهم أكثر من حضر الجانب العملي للنّبيّ عليه السّلام – عمل العترة أو آل البيت]، ثمّ لمّا بدأ الخلاف اللّاهوتي، ودخول قضايا لاهوتيّة جدليّة لأسباب سياسيّة، أو دخول الخلافات اللّاهوتيّة اليهوديّة والمسيحيّة مثلا إلى الإسلام، مع انتشار المنطق الأغريقي؛ كان المنهج الاعتزالي محاولا الحفاظ على الهيمنة القرآنيّة في الاعتقاد، ورفض دخول النّصّ الثّاني كمهيمن، أو حتّى أن يكون مضيفا لقضايا عقديّة مستقلة لها هيمنتها، وكان العقل هنا حاضرا بشكل أوسع.

إلا أنّ النّصّ الأول لم يصمد طويلا في الجانب العملي بسبب تضخم النّصّ الثّاني، ولأنّ أصول الشّافعيّ [ت 204هـ] وما بعده ساهم في ذلك، وبعد المتوكل العباسي [ت 247هـ]، ثمّ ظهور دويلات جديدة كالفاطميّة والأيوبيّة ساهمت بشكل كبير في تضخم نصوص المدارس الأخباريّة النّصيّة الشّيعيّة والغنوصيّة، بجانب المدرسة الصّفاتيّة القرشيّة السّنيّة قبلها، ليتشكل العقل الأخباري وفق النّصّ الثّاني، ويضعف النّصّ الأول بصورة كبيرة جدّا، ويكون السّائد في الدّول اللّاحقة كالغزنويّة والعثمانيّة والصّفويّة.

وفي المقابل في الطّرف المسيحيّ الأروبيّ، ومع تمدد الكهنوت في تفسير النّصّ، ممّا غلب على النّصّ الأول عندهم، كما عند الأرثذوكس والكاثوليك؛ كانت ردّة فعل من قبل مارتن لوثر [ت 1546م]، ومحاولة قراءة النّصّ الأول والتّعامل معه بعيدا عن النّصوص التّأريخيّة والتّأويلات الكهنوتيّة، فظهرت البروتستانتيّة المسيحيّة، إلا أنّ الجانب التّعاملي مع النّصّ الأول المسيحيّ تجلى بشكل أكبر مع جان كالفن [ت 1564م]، ولهذا أصبحت الكالفنيّة أكثر تأثيرا من اللّوثريّة في الخط البروتستانتيّ المسيحيّ، وكانت البروتستانتيّة بفردانيّتها نواة لعصر الأنوار، والحضارة الغربيّة الجديدة؛ لأنّها خلّصت العقل الجمعي من تراكمات وصراعات لاهوتيّة تأريخيّة، كما أنّها أبعدت الكهنوت عن احتكار فهم النّص الدّينيّ، واقتربت من الفردانيّة في الكنيسة وخارجها، كما انفتحت على العقل والعلم، وأعطت مجالا واسعا للإبداع والتّدافع، وهذا شكل مناخا لولادة حضارة جديدة من أمّة كادت أن تموت تأريخيّا بسبب تعمّق النّصّ التّأريخي، والتّفاسير الكهنوتيّة.

هذا الإحساس البروتستانتيّ ظهر ذاته في العالم الإسلاميّ، وإن كان قديما من القرون الأولى؛ إلا أنّه لما أسلفنا بيانه تضخم النّص الثّاني، وهذه طبيعة الأديان جميعا حيث السّنّة واحدة فيها، فيعتبر النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر الميلاديّ بدايات الخطّ القرآنيّ البروتستانتيّ الجديد في العالم الإسلامي، مع بدايات المفكر الهنديّ الباكستانيّ السّيد أحمد خان [ت 1898م]، وفي مصر بدأت المراجعات مع جمال الدّين الأفغانيّ [ت 1897م] ومحمّد عبده [ت 1905م]، إلا أنّ الظّهور الأقوى كان مع محمّد توفيق صدقي [1920م]، ومحمود أبو ريّة [ت 1970م]، كما أنّه في الجانب الاعتقادي برز عند محمود شلتوت [ت 1963م] مثلا.

بيد أنّ نهايات النّصف الثّاني من القرن العشرين برز القرآنيون بشكل أكبر، بعد فشل حركة الصّحوة الأخباريّة، وما نتج عنها من سلبيات أرجعت الصّراع اللّاهوتيّ الإسلاميّ، وضخّمت النّص التّأريخيّ من جديد، فبرز القرآنيّون في تشكلات أكبر، وقدّموا قراءات جديدة، كما عند محمّد أبو القاسم حاج حمد [ت 2004م]،  وطه جابر العلواني [ت 2016م]، ومحمّد شحرور [ت 2019م]، وأحمد صبحي منصور [معاصر]، وغيرهم.

ومع بدايات الألفيّة الجديدة نجد المدّ القرآني ينتشر بصورة كبيرة جدّا على الخط الأفقي، وأصبح ظاهرة واضحة في جميع المدارس الإسلاميّة، بما فيها المدارس الأخباريّة، وأصبح البديل أمام انحسار المدّ الأخباريّ، ودخوله في الجانب السّياسيّ، إلا أنّ حضوره لا زال معتمدا على عمله التّطوعيّ والشّخصيّ، مستغلا الإعلام الجديد في وسائل التّواصل الاجتماعيّ خصوصا، ولم تتبناه دول بذاتها، بل حتّى الجامعات الدّينيّة والعلميّة لا زالت تتبنى الخط الأخباريّ بصورة كبيرة جدّا، ولم تنفتح على القراءات القرآنيّة.

بيد أنّ هذا – في نظري – لن يستمر طويلا، فإما أن يتشكل التّيار القرآنيّ في توجهات مذهبيّة أوسع، كما حدث في المدارس الإنجيليّة المسيحيّة، وإمّا أن يتشكل كحركة تدفع بالتّيارات الأخباريّة نحو التّهذيب، ومراجعة آلتها ونصوصها التّأريخيّة، خصوصا أمام التّيارات اللّادينيّة الّتي تنتشر اليوم بقوّة في العالم الإسلامي، حيث المدارس الأرثوذكسيّة التّقليديّة الإسلاميّة أصبحت عاجزة عن تقديم خطاب بديل، فهناك ثلاث مدارس قد تتشكل مستقبلا بصورة أوسع: المدرسة القرآنيّة في منهجها البروتستانتيّ الإسلاميّ، فهي مؤهلة لأسباب منها تحجيم المقدّس، وجعله في دائرة أضيق في النّص القرآنيّ، خصوصا فيما يتعلق بالأمور الإجرائيّة والشّأن العام، والثّاني تخليص العقل الجمعيّ الإسلاميّ من الصّراعات التّاريخيّة بعد عهد السّقيفة، وجعلها مسألة بشريّة لا علاقة بها بالدّين، والثّالث إبعاد النّص الأول عن الصّراعات السّياسيّة، والرّابع توسيع مساحة الاجتهاد العلمي والبشري وفق قيم القرآن، إلا أنّها لم تبلور رؤيتها بعد فيما يتعلق بالنّص الثّاني، ففيها فئة مغالية ترفضة بالكليّة، وفيها فئة تقبل فقط المتواتر العمليّ، وفيها فئة ثالثة تتوسع قليلا على أن تكون الهيمنة والتّصديق للنّص القرآنيّ، بقي أنّها أيضا أمام جدليات جديدة في التّعامل مع النّص الأول ذاته، فهناك القراءات العلمويّة والتّاريخيّة والأنسنة، بجانب جدليّة الآلة ذاتها، وهذه القراءات ما بعد البروتستانتيّة اليهوديّة والمسيحيّة، فهل للقراءات القرآنيّة قدرة في التّفاعل معها، لتشكل رؤية إيجابيّة، أم أنّ القراءات الجديدة سوف تهيمن عليها ولو على المستوى البحثي والأكاديمي، لتبقى القراءات القرآنيّة على الخط الشّعبي والأفقي كما يحدث في البروتستانتيّة المسيحيّة مثلا في جوّها الأرثوذكسي التّقليدي.

والمدرسة الثّانية عودة المدرسة الغنوصيّة الإسلاميّة من جديد، ولكن في قالب أكثر انفتاحا وإنسانيّة، وأقرب إلى غنوصيّة الحلاج [ت 309هـ] وابن عربي [ت 638هـ]، وأبعد عن غنوصيّة الطّرق الصّوفيّة التّقليديّة، والّتي تعمّق الرّوح والوجدان في قالب إنساني قيمي، لتقترب من الرّبوبيّة بشكل كبير، ونتبتعد عن الغنوصيّة الطّقسيّة بشكل عام، خصوصا بعد جفاف المدارس السّلفيّة الأرثوذكسيّة الإسلاميّة من الجانب الغنوصيّ والإنسانيّ، وتركيزها على حرفيّة النّصوص، وتوسع الحرفيّة مع توسع النّص التّأريخيّ.

لتبقى المدرسة الثّالثة وهي تهذّب المدارس الأخباريّة، والمدارس السّلفيّة في جميع الخط الإسلامي، أمام تدافعها مع المدرستين القرآنيّة والغنوصيّة من جهة، وأمام القراءات المعاصرة للنّصّ الدّينيّ الأول والثّاني من جهة ثانية، لتتهذب وتتطور بطريقة أكثر عمقا من التّرقيع الّذي حدث في السّابق تحت مظلّة التّجديد أو الإصلاح.

لهذا اتصوّر أنّ القرن الحادي والعشرين سيلقي بثقله أمام قراءات جديدة قد لا ندرك العديد منها أو آثارها ما سيدركه الأجيال القادمة، هذا الخط سيبتعد كثيرا عن القراءات السّلفيّة الأرثوذكسيّة، إلى قراءات أخرى تشكل وعيّا جمعيّا منافسا لها، مع تشكل القراءات القرآنيّة ذاتها وفق قراءات جديدة تقترب من الإنسان والعلم والحضارة، وتحجم النّص الثّاني بشكل أكبر.

السابق
الأنسنة في العلمويّة اليهوديّة المعاصرة: رؤية يعقوب ملكين
التالي
القضيّة النّسويّة من خلال رؤية المفكر العماني صادق جواد سليمان
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً