جريدة عمان، 30 ربيع الثّاني 1445هـ/ 14 نوفمبر 2023م
أقام مركز الخليج للأبحاث بجدّة بالمملكة العربيّة السّعوديّة من خلال مختبر الحوار الخليجيّ ندوة افتراضيّة بعنوان: مكانة المفكرين الخليجيين بين المفكرين العرب: من الأطروحات الى التّنظير، برئاسة الدّكتور زيد الفضيل، وإدارة الدّكتورة شرف المزعل، وكنتُ مشاركا فيها مع الدّكتور سعد السّريحيّ من السّعوديّة، وقد طرحت النّدوة ثلاثة محاور تدور حول أسباب ضعف المنتج الفكريّ الخليجي قياسا للمنجز الفكريّ العربيّ، ومدى مساهمة المفكرين الخليجيين في أطروحات الفكر العربيّ المعاصر، ومبررات انقطاع المفكرين الخليجيين عن مراكمة الانتاج الفكريّ خلافا لأقرانهم المفكرين العرب.
وفي نظري وما أبديته في مداخلتي ابتداء من إشكاليّة عنوان النّدوة ذاتها، من حيث جدليّة تعريف المفكر، والفرق بينه وبين العالم أو الباحث أو الحافظ أو المثقف، فبعضهم يضيّق المصطلح لدرجة أنّه لا يوصف بهذا الوصف إلّا لمن بلغ درجة من التّفكير والنّقد، مع التّحرّر من الأيديولوجيّات المسبقة، وبعضهم يتوسع، وبعضهم يقيّده فهذا مفكر إنسانويّ، وهذا مفكر دينيّ أو إسلاميّ أو مسيحيّ، وبعضهم ينزع المفكر عن المرجعيّة اللّاهوتية، ويراه يطلق على المفكر الحرّ، لاعتبار التّفكير الفلسفيّ اليوم فكرا حرا، وبعضهم يقيّده باعتبار المرجعيّة، أو التّخصّص العلميّ، ولكن الجميع يتفق أنّ المفكر هو من يستخدم أدوات النّقد والشّك والبحث، ويحاول أن يوجد شيئا جديدا، بالمفهوم الشّموليّ، أو بالمفهوم التّخصصيّ، لهذا لمّا أتحدّث عن المفكر، خصوصا في عالمنا الخليجيّ، من الصّعوبة الحديث عن المفكر الحر، وقد يوجد، ولكنّه يضطر إلى لباس التّفكير الدّينيّ أو الاجتماعيّ، لأسباب سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة.
كما أنّه توجد ثلاثة أمور متداخلة: المصطلح والجغرافيا والتّأريخ، فهذه كانت مصطلحات أوسع في السّابق، ثمّ ضاقت وفق المصطلح والتّحديد الحاليّ والّذي ضاق جغرافيّا، وابدوره أثر في التّركة الجمعيّة للمنتج الفكريّ في هذه المنطقة، مقارنة مثلا بالمناطق والّتي ارتبطت بالحواضر المسيحيّة أو الإسلاميّة لاحقا، كالسّريان وارتباطهم بأنطاكيا في مفهومها الواسع في تركيا وبلاد الشّام، والعراق وحضاراته ومركزيّة بغداد في العهد العباسيّ، وحضارة فارس وهيمنتها في إيران وامتداداتها قديما، بجانب مصر الكبرى.
فلمّا نتحدّث عن الخليج العربيّ اليوم نتحدّث عن منطقة جغرافيّة انحصرت في زوايا وحواضر معينة، أثر فيه ما قبل الاستقلال واكتشاف النّفط الوضع الاقتصادي والتّنمويّ والاستعماري، ومع هذا توجد بوادر فكريّة متقدّمة في الخليج، منها على سبيل المثال: الإفاقة الباكرة في البحرين ثمّ الكويت، وقد ساهمت هاتان المنطقتان في الوعيّ الفكريّ الخليجيّ مبكرا، نتيجة الصّحافة والطّباعة والنّوادي الفكريّة، فصحيفة صوت البحرين مثلا في بداية الخمسينيّات من القرن الماضي كانت منبرا للقلم والكاتب الخليجيّ، كذلك مجلّة العربيّ في الكويت لاحقا، ثمّ موقع مكّة والمدينة حينها كحواضر أوسع ما قبل الانغلاق الدّينيّ الّذي حدث لاحقا، كردّة فعل على الحركات اليساريّة، كذلك الهجرات العمانيّة إلى شرق أفريقيا كوّنت لهم حواضر هناك، وكانت لهم علاقة كبيرة بالنّهضة في مصر، بل وكانوا داعمين للعديد من الرّموز الفكريّة، والمجلّات التّنويريّة في مصر كالمنار الشّهيرة، وجريدة المحروسة الّتي صدرت عام 1875م، ومجلّة الهلال، وغيرها، وكانت لهم صحفهم في شرق أفريقيا في فترة مبكرة كالنّجاح في 1911م، كما ساهمت الحركات اليساريّة في الخليج – بعيدا عن السّلبيات، – بشكل كبير في خلق تدافع فكريّ في فترة مبكرة، أثر في التّفكير الخليجيّ مبكرا، وكان لهم اهتمام بالتّعليم والصّحافة والإعلام والثّقافة، وأخيرا الهجرات الخليجيّة إلى الحواضر العربيّة الكبرى كبغداد والقاهرة ودمشق، بل وأروبا وغيرها، لم تكن فقط هجرات عماليّة، بل ظهر منها رموز فكريّة ونقديّة كالقصيميّ وعليّ المزروعي والطّائيّ وغيرهم.
ولمّا بدأ الاستقرار في دول الخليج، خصوصا في النّصف الثّاني من القرن الميلادي الماضي، بدأت الهجرات من مصر والشام وبلاد المغرب والعراق وغيرها إلى الخليج، للعمل أو التّدريس، فكانت الخليج حاضنة للعديد من الرّموز الفكريّة العربيّة، وساهمت في الوعي العربيّ، بيد أنّه بعد السّبعينيّات غلب الخطاب الدّينيّ الصّحويّ على الخطابات الأخرى، واستخدم سياسيّا ضدّ الاتّجاهات اليساريّة، ثمّ أصبح بذاته خصما للأطروحات الثّقافيّة واللّبراليّة، ممّا أوجد مناخا ضيّقا للإبداع والحضور الفكري.
ولهذا يمكن أن نرجع ضعف المنتج الفكريّ الخليجيّ الّذي ظهر بعد هذه الفترة إلى غلبة الحضور الدّينيّ على التّفكير الفلسفيّ والنّقديّ، مع التّمكين السّياسيّ للاتّجاه الدّينيّ أكثر من الاتّجاهات الأخرى، وعليه تأثير الاتّجاهين السّياسيّ والدّينيّ على الاجتماع البشريّ في الخليج من خلال الإعلام والتّعليم والمساجد ونحوها.
صاحب غلبة الحضور الدّينيّ منع تدريس الفلسفة والنّقد الحر في الجامعات والمدارس في أغلب الخليج لسنوات طويلة، مع تضييق فضاء حريّة النّقد والفلسفة في النّوادي الثّقافيّة والصّحافة والإعلام والكليّات والجامعات.، والمراقبة الدّينيّة والسّياسيّة على المطبوعات والمنشورات ومعارض الكتب، وعلى قانون المطبوعات والنّشر، نتج عن هذا وجود مواد قانونيّة في التّشريعات شبه مطاطة وعامّة تحدّ من التّفكير والنّقد بدعوى الرّدة أو ازدراء الدّين الإسلاميّ أو الأديان عموما، وعدم وجود استقلال فكريّ بعيدا عن السّياسة والاجتماع البشريّ، ليس بمعنى غاية الممايزة، ولكن بمعنى استقلاليّة الفكر ذاته، مع عدم وجود مراكز ومجالس وجمعيّات فكريّة ناقدة وحرة نوعا ما، إذا ما استثنينا الكويت والبحرين مبكرا كما أسلفنا، فكان الفضاء فيهما أكثر تقدّما مقارنة بدول الخليج الأخرى، إذ يغلب فيها الحسّ الأمنيّ والدّينيّ أكثر من الفكريّ والثّقافيّ، لهذا لم تتوفر تلك البيئة التّدافعيّة الحرّة لتوفير مناخ يساهم في رفع المنتج الفكريّ الخليجيّ.
ومع هذا توجد مساهمات خليجيّة في قطاعات عديدة من الفكر، لكن أغلبها ذات طابع فرديّ وليس مؤسّسيا، كذلك في جملتها متأثرة بالدّراسات العربيّة الأخرى، ومقلّدة لها، وفي الوقت ذاته لم تولد نظريّات واضحة حتّى اليوم كالنّظريّة الائتمانيّة عند طه عبد الرّحمن، والأنسنة والتّأريخيّة عند محمّد أركون، والوجدانيّة عند العقّاد (ت 1964م)، والجوانيّة عند عثمان أمين (ت 1978م)، والوضعيّة عند زكي نجيب محمود (ت 1993م)، والوجوديّة عند عبد الرّحمن بدويّ (ت 2002م)، وغيرها، لكن وجدت في الحقيقة رموز فكريّة ونقديّة خليجيّة لها تبلورات نظريّة، لكن لم تعط حقّها من الاهتمام، على أنّه يصعب المقارنة لأسباب عدّة وعلى رأسها المقارنة السّكانيّة، فدول الخليج إذا ما استثنينا السّعوديّة نسبة السّكان فيها قليلة جدّا مقارنة بمصر وحدها، ثمّ أنّ الطّفرة النّفطيّة جعلت العديد يذهب بعيدا عن الدّراسات الفكريّة والإنسانيّة خصوصا إلى العلوم التّطبيقيّة والمهنيّة، وذات البعد الإداريّ والماليّ والاقتصاديّ.
ولعلّ عدم الاهتمام – في نظري – يعود إلى أمرين: الأبعاد الدّينيّة والسّياسيّة السّابق ذكرها، واالنّظرة الدّونيّة من المثقف العربي إلى المثقف الخليجيّ الّذي جعل من الخليجيّ نفسه يستنقص ذاته، ومع هذا، هذه الصّورة النّمطيّة السّلبيّة بدأت تتغيّر اليوم بقوّة لعدّة أسباب منها: الحضور الأكاديميّ للمثقف والباحث الخليجيّ اليوم، وتدافعه مع المثقف العربيّ نتيجة البعثات، والجديّة في البحث والتّأليف، وساعده على ذلك الانفتاح السّياسيّ والانشراحة قي الجانب الفلسفيّ والفكريّ والثّقافيّ في فضاء أوسع من السّابق، لنجد الكتاب والمجلّات والدّوريّات المتخصّصة حاضرة بصورة أكبر، مع تقليل الرّقابة على معارض الكتب الدّوليّة، فضلا عن الشّبكة العالميّة ووسائل التّواصل أعطت مناخا أوسع في خلق هذا الحضور والتّدافع، حيث نرى الباحث والمثقف والنّاقد الخليجيّ حاضرا اليوم في وسائل الإعلام والمؤتمرات ومعارض الكتب وغيرها، كما نرى تنوعا في مجالات النتّاج التّأليفيّ الخليجيّ، ولم يتوقف عند النّقد، ففي عمان الإصدارات سنويّا تتجاوز الثّلاثمائة مؤلفا جديدا، لا تقتصر عند التّراث والدّين والأدب فقط، بل تتجاوز ذلك إلى مجالات فكريّة وفلسفيّة ونقديّة واجتماعيّة.
والنّتاج الخليجيّ وإن كان في نظري في الفترة الأخيرة أكثر حضورا وتنوعا، ولكن يحتاج إلى شيء من الوقت ليثمر بصورة أكبر، كما يحتاج إلى مزيد من الحريّات، وإلى عمل مؤسّسي متنوع، وتسهيل تراخيص المراكز البحثيّة، وتشجيعها ماليّا وقانونيّا، وكما أسلفت المقارنة بين نتاج الخليجيّ وأخيه العربيّ فيه شيء من الإجحاف، نعم، قد يكون فيه شيء من الاستقرار المادي عند المثقف الخليجي بسبب استقرار الدّخل بشكل عام، ولكن يبقى الجانب السّكاني له دور كبير، ثمّ بشكل طبيعيّ بسبب النّمو الماديّ يذهب العديد من أبناء الخليج إلى البحث عن تخصّصات تجلب لهم استقرارا ماديّا.
وما أسلفتُ ذكره لا يعني المفاصلة بين الخليج والوطن العربيّ الكبير، فهذا يصعب تحقّقه؛ لأنّنا أمّة واحدة ذات مشتركات كبيرة، وتنوع كبير أيضا، فلست مع تمييز الذّات، وإعلاء الأنا، ولكن لستُ أيضا مع التّقليل من الذّات، وهضمها وجلدها بشكل ينزع لباسها، ويبدلها بصورة تغطّي تميزها، وتستر حسناتها، فما أشرتُ إليه حالة وصفيّة لا أكثر، وهنا علينا اليوم في الخليج أن ننفتح ثقافيّا على بعضنا، سواء على مستوى الجمعيّات والأسر الثّقافيّة، أو على مستوى المؤسّسات الأهليّة والرّسميّة، أو مستوى الأفراد والجهود الشّخصيّة.
كما يجب أن يكون مشروع المثقف الخليجيّ مشروعا ثقافيّا وليس مؤدلجا سياسيّا بالمفهوم الحركيّ وليس النّقديّ؛ لأنّ الثّقافة فضاء حر، إذا سُيّست وتسيّست ضاقت وتنافرت، وأن نستفيد من التّعدديّة الموجودة في الخليج واستثمارها إيجابا وفق مشاريع ثقافيّة تنقلها من الحالة الأفقيّة إلى الدّراسات الرّأسيّة العميقة، وأن نتجاوز فضاء الأدلجات المتعدّدة دينيّا واجتماعيّا وسياسيّا إلى فضاء الإنسان والتّعدّديّة والعقل والبحث والنّقد، فهي الحالة الصّحيّة لتوفير بيئة خليجيّة منتجة ثقافيّا ومعرفيّا.