الحوارات

حوار حول الثّقافة

مع الملحق الرّمضانيّ بوزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة، رمصان 1440هـ/ 2019م

الملحق الرّمضانيّ: بداية ما مفهوم الثّقافة؟

العبري: قلتُ في كتابي إضاءة قلم ص: 38 -40: [الثّقافة من ثقَّف التِّلميذَ: أدَّبه وربّاه، وعلّمه ودرَّبه وهذَّبه، والثّقافة هي الحذق والفطنة والخفة، وهي أيضا التّسوية والتّهذيب والتّأديب، ففي مختار الصحاح: ثَقُفَ الرّجل من باب ظرف صار حاذقا خفيفا، فهو ثَقْفٌ مثل ضَخُم فهو ضَخْم، ومنه المُثَاقَفةُ، وثَقِفَ كعضد والثِّقَافُ ما تسوى به الرّماح، وتثقيفُها تسويتها، وثَقِفَهُ من باب فهم صادفه، وجاء مشتق ثقف في القرآن الكريم في خمسة مواضع  بمعنى الظّفر، ومنه قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}  أي تظفر بهم، ويعرّف ندين لإدوارد تايلور [ت 1917م] الثّقافة بأنّها: الكلّ المركب الّذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنّ والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى الّتي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع، ويعتبر تايلور أول من وضع مصطلحا وصفيا للثّقافة، ونلحظ من هذا التّعريف شموليته، وارتباط الإنسان بالمجتمع أو البيئة الّتي ولد فيها، ويعرّف تركي الحمد الثّقافة بمعايير العقل والسّلوك، والّتي تحدد معنى الحياة، حيث لا معنى لها بدون هذه المعايير، ورموز تحدد غايات الحياة، الّتي لا غاية لها بدون تلك الّرموز، بمعنى أنّ الثّقافة هي إجابة لسؤال الفرد والجماعة عن كيف ولماذا وإلى أين، أي الغاية من الوجود، ونجد تعريف تركي الحمد أقرب إلى الجانب الفلسفيّ الّذي يسقط الدّهشة على الإنسان، فيسقط العديد من التّساؤلات ليبحث عنها، ويحاول إيجاد أجوبة عليها، ويعرّفها محمد فيضي بمجموع العقائد والقيم والقواعد الّتي يقبلها ويمتثل لها أفراد المجتمع، ذلك لأنّ الثّقافة هي قوة وسلطة موجهة لسلوك المجتمع، تحدد لأفراده تصوراتهم عن أنفسهم والعالم من حولهم، وتحدد لهم ما يحبون ويكرهون ويرغبون فيه، ويرغبون عنه، كنوع الطعام الّذي يأكلون، ونوع الملابس الّتي يرتدون، والطّريقة الّتي يتكلمون بها، والألعاب الرّياضيّة الّتي يمارسونها، والأبطال التّاريخيين الّذين خلّدوا في ضمائرهم، والرموز الّتي يتخذونها للإفصاح عن مكنونات أنفسهم ونحو ذلك، ونخلص من هذا أنّ الثقافة لها بعدان، بعد ذاتي مرتبط بذات الإنسان، كمشتركات يشترك عليها الجنس البشريّ، وبعد قومي أو حضاري مرتبط بقوميّة وحضارة الإنسان على مر التّأريخ، وباختلاف المناطق الجغرافيّة وتعددها].

الملحق الرّمضانيّ: ما جوانب تعدد الثّقافة وأفضليتها؟

العبري: للثّقافة جوانب عديدة، منها ما يتصل بالماضي، ومنها ما يتصل بالحاضر والمستقبل، ومنها ما يتصل بالغيب ومنها ما يتصل بالمشاهدة، ومنها ما يتصل بالتّصور العقليّ، ومنها ما يتصل بالتّجربة، ومنها ما يتصل بالفنّ والذّوق والوجدان، ومنها ما يتصل بالحسّ والسّير والبحث.

وعلى هذا لا يمكن حصر جوانب الثّقافة؛ لارتباطها بالإنسان ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ولا يمكن أن نقول هذه الثّقافة أفضل من تلك، إلا بمقدار ما يخدم الإنسان ويرقى به، سواء على المستوى الجزئيّ في الوطن أو البلد الواحد، أو على المستوى الأمميّ والإنسانيّ، فكلّ ما كان خادما للإنسان، ودافعا لرقيّه وتقدّمه كان أفضل بلا شك.

وعموما تعدد الثّقافات واختلافها وتغايرها يخدم المجتمع الإنسانيّ، وهو من آيات الله تعالى، {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الرّوم/ 22].

الملحق الرّمضانيّ: إذا جئنا إلى المعلمين نجد لديهم في مادّة معينة إلماما بسيطا في الثّقافة، هل من توجيه؟

العبري: بداية هناك الثّقافة التّخصصيّة، وهناك الثّقافة الشّموليّة، وقد فرضه اليوم طبيعةُ التّعليم التّخصصيّ، وما يترتب على ذلك من وظائف تبنى على هذا التّخصص، وإن كانت العلوم في أصلها متداخلة تحت صنفين كبيرين: العلوم الإنسانيّة، والعلوم التّطبيقيّة والتّجريبيّة.

والعالم اليوم يعيش في قرية واحدة، فتتداخل بذلك الثّقافات والعلوم والمكتشفات، وأصبح هذا التّداخل يلزم الواحد أن يكون ملمّا بالحدّ الأدنى من الثّقافات، ليستطيع العيش في هذا العالم المتعدد في طبيعته وثقافاته.

وإذا كان هذا بالنّسبة للأفراد العاديين؛ فهو ألزم بالنّسبة للمعلّم، لكونه يعيش تجربة تربويّة وتعليميّة طويلة الأيام والسّاعات يعيشها بين أبنائه وتلامذته وإخوانه المعلمين، فسعة ثقافته يجعله موضع ثقة لدى التّلاميذ، قبل أن يكون موضع قدوة وأداء وظيفيّ.

وهذا لا يعني عدم التّخصص، فعمقه ثقافيّا في تخصصه فرض عليه؛ لأنّ المعارف تتقدّم بسرعة، خصوصا في التّخصصات التّطبيقيّة والتّجريبيّة، ويسقط أثر ذلك على علوم الآلة والعلوم الإنسانيّة بشكل عامّ، وهذا يترتب عليه أيضا أن يوسع مداركه وثقافته في العلوم الأخرى لارتباطها بتخصصه أولا، ولتداخل وقرب الثّقافات ثانيا.

الملحق الرّمضانيّ: هل قلّة القراءة والاطلاع على ثقافة الغير سبب ضعف أداء المعلم في واجبه التّعليميّ؟

العبري: بداية الثّقافة لا تُنمى فقط عن طريق القراءة، والقراءة وسيلة مهمّة بلا شك في النّمو الثّقافي وعمقه وشموليته، ولكن هناك أيضا السّير والبحث والتّأمل والتّجارب والكتابة والحضور الثّقافيّ والمتابعة لكلّ جديد والتّجربة والحوار ونحوها، كلّ هذه العوامل تصقل ثقافة المعلم وترقى به.

هناك للأسف معلّمون لا يتجاوزن مذكرات دراستهم الجامعيّة، وهناك معلّمون لم يخرجوا من صندوق تخصصهم، بجانب معلمين يكتفون بحفظ منهج الدّراسة، فلم يطوروا ذاتهم في أصل التّخصص، ولا في الوسائل، فأصبحت المادّة وظيفة تكرر سنويّا لا أكثر ولا أقل.

وهذا بلا شك له أثره السّلبيّ على التّخصص ذاته، وبالتّالي له أثره السّلبيّ على جمود ثقافة المعلم، فتجد الطّلاب تجاوزوا المعلّم زمنا، بيد أنّه لا زال يعيش في نقطة ماضوية لم يتقدّمها، ممّا يؤثر سلبا في المادّة ذاتها، فهو يأتي ليشغل شريط ما حفظه في ذلك اليوم، ثمّ يخرج ليواصل الشّريط في اليوم الثّاني، وهكذا دواليك، بيد أنّه لو حدث أدنى حوار مع الطّلاب لربما ارتبك من البداية، فتسقط الصّورة السّلبيّة لدى الطّلاب، لهذا تنوع الثّقافة وعمقها يطور من قدرات المعلّم ووسائله التّربويّة والتّعليميّة.

الملحق الرّمضانيّ: ما دور المعلّم في تعميق تعدد الثّقافة لدى الطّلاب، حتى يخرج من الدّبلوم العامّ وعنده ملكة ثقافيّة؟

العبري: الثّقافة ليست مادّة خام تفصل بمقياس معيّن، وفي زمن معيّن، فهي تلازم الإنسان طول حياته، ولكن يقوم التّعليم على التّأسيس، بحيث يخرج الطّالب من الدّبلوم العامّ وقد تأسس معرفيّا وثقافيّا، وهذه الفترة الطّويلة من عمر الإنسان وضعت لأنّ للطّلاب قدرات في الاكتساب، وحتى تتحدد الصّورة التّخصصيّة لكلّ واحد، ولإنماء ذلك يعود بداية إلى الطّاقم المربي، وثانيا إلى الوسائل بين الطّاقم والطّلاب، وثالثا إلى الحريّة والتّشجيع.

أمّا الأول فأشرنا إليه آنفا في ضرورة أن يكون المعلّم على قاعدة ثقافيّة تخصصيّة عميقة، بجانب الشّموليّة أيضا في الجوانب الأخرى، والثّاني الوسائل والّتي تبنى على الحوار قبل التّلقين، والبحث قبل المعلومات الجاهزة، ومراعاة القدرات والمواهب، وهذا يتضح في الجانب الثّالث من خلال الحريّة والتّشجيع، فإذا وجد الطّلاب جوّا من الحريّة والتّشجيع؛ في طرح أسئلتهم بكلّ حريّة، وإبداء مواهبهم وإبداعاتهم، مع التّشجيع على البحث والتّجربة، والتّكريم على ذلك، كلّ هذا سيثمر بعد حين، ويخرج الطّالب قويّا متشكلا ثقافيّا وتعليميّا. 

الملحق الرّمضانيّ: إذا قلنا للشّخص أنّه مثقف هل يعني أنّه مطلع على جميع الثّقافات؟

العبري: هذا السّؤال أجبنا عليه ضمنا في الأعلى، فالإنسان مثقف بطبعه، يكسب ثقافته إمّا بالاطلاع أو السّماع أو البحث أو التّأمل، ولهذا تتشكل لدينا لوحة متعددة الألوان في الثّقافات، ولا يمكن بحال أن يطلب من الواحد أن يكون مكتسبا لجميع هذه الألوان، ولكن أن يكون حاضرا ومتداخلا، مع تخصصه في ذاته وثقافته هو.

الملحق الرّمضانيّ: هل للمرأة دور في الشّراك الثّقافيّ في المجتمع؟

العبري: بلا شك، المرأة لا أقول جزءا من المجتمع بل هي شريك في بناء المجتمع الإنسانيّ الكبير، وحضورها ثقافيّا قد يكون أولى من الرّجل؛ لارتباطها بداية بالأسرة، فكلّما تطورت ثقافيّا سقط ذلك على الأسرة، وكلّما رقت الأسرة ثقافيّا عاد نفعه على المجتمع ككل، فلابدّ أن يكون للمرأة حضورها الثّقافيّ في المجتمع، وأن تشارك الرّجل أيضا في جميع المجالات بلا تخصيص بما يتوافق مع ميولها وقدراتها.

الملحق الرّمضانيّ: هل من كلمة أخيرة؟

العبري: تقاس المجتمعات تقدّما بتعدد ثقافاتها، من محافظة على الموجود، ورقي وتطوير وكسب للجديد، ولا يوجد مجتمع اليوم يعيش منعزلا، والمجتمعات القويّة هي من تؤثر في الآخر ثقافيّا، أمّا الضّعيفة فهي من تستقبل ولا تصدّر، وتستهلك ولا تنتج، وتقلّد ولا تبدع، كلّ هذا يؤثر على وضع المجتمعات سياسيّا واقتصاديّا وسياحيّا وإبداعيّا ومعرفيّا، لذا الاهتمام بالثّقافة ورقيّها ضرورة لأيّ مجتمع إذا أراد أن يكون له موقعه في هذا العالم الّذي أصبح يعيش في قرية صغيرة.

السابق
أبو طالب بن عبد المطلب رؤية في الأدبيات الإباضيّة
التالي
حوار حول التّراث والتّجديد
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً