ملحق جريدة عمان الثّقافيّ، عدد (30)، الخميس 20 من ذي الحجّة 1445هـ/ 27 يونيو 2024م
شيراز خامس أكبر مدينة في إيران، وهي مدينة عريقة موغلة في القدم، ولها حضورها في الأدبيّات الإسلاميّة، وأخرجت الكثير من الفلاسفة والمحدّثين والأدباء والشّعراء والرّموز الدّينيّة والسّياسيّة، حتّى بات لقب “الشّيرازيّ” حاضرا في موسوعات التّراجم، وأهلها لهم انتماءاتهم القبليّة المترابطة إلى اليوم، وغالبهم مسلمون على المذهب الشّيعيّ الإماميّ الجعفريّ، ويوجد فيها أقليّة سنيّة، كما يوجد فيها أقليّة من الزّرادشت واليهود ويسمّونهم الكليميين نسبة إلى كليم الله موسى، والأرمن والبهائيين.
ومن أهم معالمها الدّينيّة: بوابة القرآن، وشاه جراغ، ومزار عليّ بن حمزة الهوليّ الذّي بني قبل الدّولة السّلجوفيّة، وقبر حافظ الشّاعر الشيرازيّ العظيم في الحبّ والمحبوب (1326 – 1390م)، وقبر السّعديّ (ت 691هـ/ 1292م) وهو شاعر فرّ من المغول، ووقع في أيدي الصّليبيين، خرج بفدية من رجل حلب ألزم بالزّواج من ابنته السّيئة كما يروى، كما توجد المعابد اليهوديّة القديمة، ومعبد النّار للزّرادشت، ومسجد نصير الملك الّذي يعود إلى عام 1876م.
ومن أهم معالم شيراز التّأريخيّة معلم مدينة باسارغاد، وهي مدينة فارس القديمة وأول عاصمة الأخمينيين أيام كورش الكبير، ومعلم برسبوليس أو جمشيد، وهي عاصمة الأخمينيين وقد أدرجت في اليونيسكو، ومعلم متحف بارس في قصر ملوك الدّولة الزّنديّة، وفيه قبر کریم خان زند (ت 1193هـ/ 1779م)، ومعلم نقش رستم، وفيه معالم ملوك الدّولة الأخمينيّة والسّاسانيّة، ومعلم حديقة أرم، وفيها جميع أشجار العالم وقصر الشّاه، ومعلم حديقة عفيف آباد، وفيها مجمع الحدائق، والقصر الملكيّ ومتحف للأسلحة.
وفي زيارتي إلى شيراز عام 1444هـ/ 2023م زرتُ مسجد نصير الملك الّذي يعود إلى عام 1876م، أي إلى العهد القاجاريّ، وقد ذهبت إليه في العاشرة صباحا من يوم الجمعة، 30 رمضان، يوافقه 21 أبريل، وهو من التّحف الشّيرازيّة الجميلة، ويسمّى مسجد الألوان السّبعة، ويسمّى أيضا بالمسجد الورديّ لوجود بلاط ورديّ اللّون فيه، حيث بني على زجاج يعكس جميع الألوان بعد شروق الشّمس، ويوجد فيه محرابان وملاحق، ورأيت في داخله نقشا لمبنى يشبه الكنيسة ويشبه المسجد أيضا، وهنا قال لي صاحبي الشّيرازيّ والعهدة له: أنّه تخليد للتّعايش الدّينيّ الّذي يعيشه الشّيرازيون خصوصا مع المسيحيين؛ فقد نقشت – فيما يبدو – صورة الكنيسة في أماكن مختلفة في بعض زواياه، وقيل لأنّه أخذ هندسة المسجد من أوروبا، ولكي تكون بيوت الله رمزا للجمال والحبّ والسّلام.
كما يوجد فيه مرقد سيّد الحرمين، ويقولون هو أحد أبناء الأئمّة، جاء إلى شيراز هروبا من الاضطهاد العبّاسيّ، ولكون مرقده بين مرقد أحمد ومحمّد أبناء موسى الكاظم – كما سيأتي بيانه -، وبين مرقد السّيّد علاء الدّين حسين (ت في القرن 12هـ) فسميّ سيّد الحرمين، ويطلقون على سيّد الحرمين أيضا اسم السّيّد أو الإمام المكبل، ويطلقون عليه أيضا إمام زاده زنجيري أو إمام زنجير أو إمام السّلسلة؛ لأنّ زنجير بالعربيّ معناها السّلسلة، وسميّ بذلك لأنّ جدّه أي الإمام زين العابدين – رابع الأئمّة عند الشّيعة والمتوفى 95هـ- كبّل بالسّلاسل، بينما “أهالي شيراز يقولون إنّ سبب تسمية هذا السّيّد المرحوم بـالسّيّد المكبل هو أنّ نصير الملك كان لديه إيمان واعتقاد راسخ به، وكان يجلب الأشخاص الّذين تُوجه لهم تهم معينة، ويربطون بالسّلسلة بمرقده، فإن انفتحت اعتبروه بريئا من التّهمة الموجهة إليه” [مقالة نصير الملك في شيراز على موقع الكوثر على الشّبكة العالميّة]، وذكر لي – شخصيّا – بعض أهل شيراز رواية أخرى، وهي أنّ سجينا حكم عليه بالإعدام، فهرب من الشّرطة وهو مكبّل بالسّلاسل، وذهب مستغيثا بهذا الضّريح، فرأى الحاكم رؤيا أنّ الإمام جاءه في المنام يطلب منه أن يعفو عن هذا السّجين، فعفا عنه، ولا زالت السّلسلة موجودة قرب المرقد حتّى اليوم.
وقريب من هذا المسجد أيضا يقع مسجد أو جامع شاه جراغ، فذهبنا إليه مشيا، ووجدنا في الطّريق خريطة كاملة تدلّك على المعالم السّياحيّة في شيراز، ومسجد شاه جراغ من المساجد القديمة والعريقة في شيراز، وفيه ضريح أحمد ومحمّد أبناء موسى الكاظم المتوفى 183هـ، الإمام السّابع عند الإماميّة، وشقيقي عليّ الرضا المتوفى 203هـ، الإمام الثّامن عندهم، ويعتبر مزاره من أكبر المزارات في إيران، ويقع في أرض طوس أو مشهد حاليا، وهؤلاء الثّلاثة أحمد ومحمّد وعليّ هربوا إلى بلاد فارس بعدا من اضطهاد العبّاسيين في عهد المأمون (ت 218هـ/ 883م) كما يذكر الرّواة، بجانب أختهم المعصومة، ومزار ضريحها في قم.
وشاه جراغ تعني الملك المضيء، وهو لقب أطلق على السّيّد أحمد ابن الإمام الكاظم، وأثناء زيارتي للضّريح ذكر لي أحدهم قصّة، وهي أنّ إحدى النّساء الصّالحات المتنسكات العابدات، كانت قد أعدّت لها مكانا تتنسك فيه، وفي ليلة شاهدت نورا يخرج من الأرض، وتكرّر الأمر ليالي أخرى، فأخبرت الحكومة بذلك، وكان في عهد الامير مقرّب الدّين مسعود بن بدر (658هـ)، فحفروا الأرض، فوجدوا جثة لم تتغير مكتوب فيها خاتم منقوش عليه “العزّة لله أحمد بن موسى بن جعفر”، فبنت مرقدا لها بجواره، بيد أنّ الرّواية التّأريخيّة تقول إنّ المرأة هذه هي الخاتون تاشي، وكانت من الصّالحات المتنسكات، وأتت بعد اكتشاف القبر بما يقارب مائة سنة، حيث اكتشف قبر السّيد صدفة أثناء الحفر في عهد الامير مقرّب الدّين، وفد بنت لها مرقدا ومدرسة قرب القبر عام 750هـ، وأوقفت له وقفا لازال باقيا حتّى اليوم، وذلك في العهد الصّفويّ، ثمّ بني المسجد، وطوّر في العهد القاجاريّ ولا زال يلقى اهتماما حتّى اليوم.
ومسجد شاه جراغ هو المسجد الوحيد الّذي يقام فيه صلاة الجمعة في شيراز، وصلاة الجمعة في إيران لا تقام في كلّ مكان، ولا يقيمها غير الممثل الخاصّ للوليّ الفقيه، والأصل عندهم يسقط وجوبها في الغيبة الكبرى؛ لأنّ شرط وجوبها وجود الإمام المعصوم، وبما أنّ الإمام المعصوم غائب عن الأنظار؛ فتقوم نظريّة ولاية الفقيه على فكرة النّيابة المطلقة عن الإمام الغائب أي المهديّ المنتظر محمّد بن الحسن العسكريّ، ولهذا يقيمها في إيران نائب الإمام الغائب أو الولي الفقيه الّذي هو اليوم السّيّد عليّ خامنائيّ، وينوب عنه ممثلوه في العواصم الكبرى، وتكون في مكان واحد، ويغلب عليها الجانب السّياسيّ.
والنّائب عن الوليّ الفقيه في إقامة صلاة الجمعة في شيراز هو آیة الله دژکام، وبالفارسيّ لطف الله دژکام، وهو ممثل الفقيه في محافظة فارس، وممثل فارس في مجلس خبراء القيادة، وهو من تلاميذ المرجع وحيد الخراسانيّ، والمرجع ناصر مكارم الشّيرازيّ، والثّاني أصله من شيراز، ويسكن حاليا قم، وهو من المرجعيّات الدّينيّة المهمّة في إيران والعالم الشّيعيّ حاليا، ومن أهم القيادات في الثّورة الإيرانيّة، ولكبر سنّه أصبحت زيارته صعبة.
وخطبة الجمعة لديهم خطبتان يفصل بينهما بجلسة خفيفة، وكما أسلفت هي أقرب إلى السّياسة، يفتتحها بالعربيّة ثمّ تكون بالفارسيّة، ويأتي المصلّون فيها بشعار “الموت لإسرائيل الموت لأمريكا” بصوت مرتفع، كما لم أجد عندهم التّقيّد بعدم الحديث أثناء الخطبة، والإمام يخطب في مساحة في المسجد، يجلس في مكان مرتفع قليلا أثناء الخطبة في صالة أو مساحة واسعة أقرب إلى صالة الاحتفالات عندنا، وليس في محراب كمحراب المساجد، كما تجد من الطّبيعي لديهم أن توضع لوحة خلف الخطيب وفيها تصاوير، كصورة الإمام الخمينيّ أو الخامنائيّ أو بعض الشّهداء والرّموز القياديّة والدّينيّة لديهم، وأحيانا يصلّي الإمام في مكان منخفض؛ لأنّ من شروط إمام الجماعة عندهم أن يكون مساويا للمصلّين أو منخفضا عنهم، فيخشى إذا كانت فيه أماكن منخفضة للمصلّين أن يكون الإمام مرتفعا عنهم، لهذا يصلّي في مكان منخفض ليكون مساويا أو نازلا عنهم.
وفي صباح يوم السّبت، وقد وافق عيد الفطر في إيران حسب رؤية المرشد الأعلى عليّ خامنائيّ، ذهبتُ بعد صلاة عيد الفطر إلى زيارة ضريح السّيّد علاء الدّين بن الحسين، وبالفارسيّ “مزار إمام زاده سيّد عليّ بن حسين”، ويعود إلى القرن الرّابع عشر الهجريّ، ويقولون هو من إخوة الإمام الرّضا، ومن أبناء موسى بن جعفر، هرب إلى شيراز هربا من الاضطهاد العبّاسيّ، والحكاية الشّيرازيّة أنّه في “عهد الصّفويين اتّسعت مدينة شيراز حتّى وصلت البيوت إلى الأرض الّتي ضمّت جسد السّيد علاء الدّين، فعندما كانوا يحفرون فيها لوضع أساس للبناء، عثروا على جثة شاب جميل كأنّه قتل من ساعته، واضعا يده على قبضة سيفه، والمصحف الكريم على صدره، فعرفوا ممّا لديهم من العلائم والشّواهد أنّه السّيّد علاء الدّين حسين بن الإمام موسى بن جعفر – عليه السّلام -، فقيل: إنّهم وجدوا اسمه مكتوبا على جلد المصحف الكريم، فدفنوه بعد الصّلاة عليه في محلّه، وأمر حاكم شيراز أن يبنوا على قبره مكانا عاليا، وبناء رفيعا … وبعد ذلك جاء رجل من المدينة المنورة يدعى الميرزا عليّ المدنيّ، وكان ثريّا، فقام بتوسيع البناء على مرقد السّيّد علاء الدّين، وشيّد عليه قبّة جميلة، واشترى أملاكا كثيرة، فجعلها وقفا على ذلك المرقد، وأمر بصرف وارداتها بشؤونه، كما أوصى بأن يدفن بعد موته في جوار السّيّد علاء الدّين، فلمّا مات دفنوه هناك، وقبره اليوم في تلك البقعة معروف، وقد كتب عليه اسمه، وهو: ميرزا عليّ المدنيّ” [ترجمة الأمير السّيّد علاء الدّين حسين على موقع مؤسّسة السّبطين في الشّبكة العالميّة]، وتطوّر بناؤه في عهد الشّاه إسماعيل الصّفويّ الثّانيّ (ت 985هـ/ 1577م)، ولا زال المزار يحمل العمارة الصّفويّة حتّى اليوم.
وفي عصر اليوم ذاته ذهبنا إلى حديقة “چهل تنان”، وفي الطّريق مررنا على بوابة القرآن، وهي من المعالم القديمة الّتي تعود إلى العصر البويهيّ، وكانت في مدخل شيراز القديمة، حيث وضع المصحف فيها تبركا به، واستلهاما للأمن والسّلام ببركته، وتسمّى بالفارسيّ “دروازه قرآن”، ويقال هذه النّسخة من المصحف موجودة في متحف بارس، أي فارس، والبوابة دمرت عام 1936م، وبنيت من جديد على ذات معماريّتها عام 1950م، ثمّ ذهبنا إلى حديقة “چهل تنان”، وهي من الحدائق الجميلة في إيران، أسّسها کریم خان زند (ت 1193هـ/ 1779م)، مؤسّس الدّولة الزّنديّة، وتتميز بالأشجار، وفيها أربعون قبرا للمتصوّفة المتنسكين، مرتبة بشكل منظّم، وكانت مزدحمة بشكل كبير من النّاس، ولا يكاد تجد موقفا.
وكان قريبا من الحديقة ضريح الشّاعر الفارسيّ الشّهير حافظ الشّيرازيّ (ت 792هـ/ 1390م)، وبالفارسيّ “خواجه شمس الدّين محمد حافظ شيرازى”، وأدرك زمن آل اينجو المغول، وزمن آل مظفر ممّن حكم شيراز حينها، وكان شاعرا عظيما، وديوانه من أشهر الدّواوين الفارسيّة، ويقال لا يخلو بيت فارسيّ منه، وترجم إلى العديد من لغات العالم، ومنها العربيّة، وأهل شيراز يقدّسون ديوانه بشكل كبير، ويتغنّون ويتبركون بأشعاره، ويستلهمون ببركته حظوظهم، وكان هناك مجموعة من الفتية يحملون حماما، وعندهم إناء فيه قصّاصات صغيرة فيها أبيات من شعر حافظ وحظوظ مستوحاة منه، تختار لك الحمامة قصّاصة تدرك بها حظّك، فجربت ذلك، فكان حظّي مكتوب في قصّاصته الصّفراء: “يوم الهجر وليلة فراق الحبيب وصل لنهاية المطاف، ضربت هذا الفال، ومَرّ الحظّ والعمل لنهاية الأمر، يا صاحب الفال : ذقت الكثير من الغَم والحزن في حياتك، لقد عانيت كثيرا من المعاناة، والّذي نفذ صبرك، ولكن اعلم بأنّ عليك الصّبر، ولا تبيع جوهر وجودك بالرّخص، ولا تفكر بالدّنيا؛ لأنّه كطوفان إذا وقعت في شركها لا خلاص لك منها، قريبا سوف تفتح عليك الأبواب، اذكر الله دائما، وسوف تصل لغايتك بعد ثلاث حصص”، والمزار لوحة جميلة من الأشجار وبركة الماء الكبيرة والمعمار الفارسيّ، كما يوجد في داخلة مكان معدّ لصنع الأعمال الحرفيّة الّتي تتميز بها شيراز، وصالة لبيع الكتب والهدايا، ومنها ديوان حافظ، وقد اشتريته مترجما إلى العربيّة، وثمنه مرتفع قليلا، وفي الخارج رأيت شابا يضرب الآلة الموسيقيّة هاند بان (Handpan) بإتقان بديع جدّا، والنّاس يتجمعون حوله، ومن أراد الصّدقة فله حرّيّته.
وفي اليوم التّالي أي الأحد الثّاني من شوال، يوافقه 23 أبريل زرت عصرا مقبرة دار السّلام، ويسميها بعضهم بوادي السّلام، وهي من أقدم المقابر وأعظمها في بلاد فارس وإيران عموما، ويقال إنّ عمرها أكثر من ألف سنة، وتعتبر الثّالثة في العالم من حيث القدم، وتضم قبورا عديدة، منهم العلماء والفقهاء والعرفانيون والمتصوّفة، والعديد من آثارها قديمة، وفي الدّاخل مزار لضريح لا أعلم اسمه، ولكن الّذي تقوم على إشرافه امرأة كبيرة في السّنّ، فدخلنا، وكان هناك من الزّوار يدعون ويتوسلون بصاحب الضّريح، فأكرمتنا بالشّاي والماء، وفي المقبرة رأيتهم يمشون فوق القبور، وهذا رأيته في مزاراتهم في مزار المعصومة بقم والإمام الرّضا في مشهد.
في صباح يوم الاثنين الثّالث من شوال، يوافقه 24 أبريل، ذهبت لزيارة مدرسة “خان شيراز” بصحبة الأستاذ مسعود منيعاتي، وهو من الباحثين في الفلسفة والعرفان الشّيعيّ، كما أنّه باحث عميق في تأريخ شيراز، ودقائق مدنها، ومن كبار المثقفين فيها، والمدرسة من أقدم المدارس العلميّة في إيران تعود إلى عصر عبّاس الصّفويّ (ت 1038هـ/ 1629م)، واشتهرت أيضا باسم مدرسة ملّا صدر الشّيرازيّ (ت 1050هـ/ 1640م)، والمعروف بصدر المتأهلين، وابتدأ بناؤها في عهد شاه وردي خان (ت 1007هـ/ 1598م) حاكم فارس واكتمل بواسطة ابنه إمام قلّي خان (توفي بعد 1642م)، وقد كان وردي خان محبّا للفلسفة والعلوم العرفانيّة والطّبيعيّة، والمدرسة عبارة عن طابقين لها أربع جهات، فيها سبعون فصلا أو غرفة، يتوسطها بركة ماء كبيرة، مع أشجار وزهور ونقوش تزيدها جمالا، وجاء في اللّوحة التّعريفيّة بالمدرسة “أنّ المدرسة مزينة بالنّقوش الجميلة في المدخل، وكذلك فنّ الفسيفساء المميز في ممرات الدّخول، قي قسم الدّخول لبناية المدرسة لوحة معلّقة مذكور فيها سنة البناء ١٠٢٤ ( هجري – قمري )، ومزينة بكتابة ثلث أخرى في زمن ناصر الدّين شاه عند التّرميم، ويوجد بالقسم الفوقاني للدّخول شرفة وسيعة والّتي كان يُدرّس فيها ملّا صدرا”، ويقال استخدم في ديكورها وهندستها الرّقم خمسة، وهو رقم مقدّس إشارة إلى أصحاب الكساء، أي النّبيّ محمّد والإمام عليّ وزوجته فاطمة، وابنيهما الحسن والحسين، كما توجد فيه من حيث الأصالة خمس كليّات وحوزات كبرى موزعة على المعارف الدّينيّة والفلسفيّة والطّبيعيّة، أخذنا جولة فيها، ورأينا فيها غرفة للأخشاب وصناعة اللّوحات الخشبيّة التّقليديّة وتزيينها وتصبيغها، وفي خارج المدرسة فضاء واسع وأنيق جدّا، ومن هذه المدرسة انطلقت فلسفة “الحكمة المتعالية” للملّا صدرا، وسمّيت بالمتعالية لأنّها جمعت بين المشائيّة والإشراقيّة والرّواقيّة والمسالك الصّوفيّة والعرفانيّة، فهي جمعت بينها وتعالت عليها.
وبعد زيارة هذه المدرسة ذهبنا لزيارة جامع عتيق، وهو من المساجد القديمة، ويعود إلى القرن التّاسع الهجريّ، وصلّينا فيه الظّهر والعصر، ولا زال محافظا على نقائه وبنائه.
ثمّ ذهبنا قبيل العصر إلى شارع أو مجمع الأديان في شيراز، وهو شارع قديم، لكنّه منظم ونظيف، ويوجد فيه كنس لليهود، وكنيسة للأرمن، وللكاثوليك فيما يبدو لي، ومعابد الزّرادشت، ومساجد للشّيعة الجعفريّة، كما يوجد مسجد لخانقاه أحمدي وهي فرقة مغالية في نظرتها للإمام عليّ، وطلبنا الدّخول للقائهم لكنّهم رفضوا، ومررنا على منزل أو مجلس أتصوّره لجماعة دراويش غونابادي الصّوفيّة – كما أخبرني صاحبيّ -، وهي أكبر جماعة صوفيّة شيعيّة في إيران، ويسمون أيضا الدّراويش الكناباديون نسبة إلى منطقة كناباد في جنوب خراسان رضويّ، ويرون أنّهم يعودون إلى الشّاعر الصّوفيّ نور الدين شاه نعمة الله (ت 820هـ/ 1431م)، ويسمّى أيضا شاه نعمة الله ولي، وجماعته تسمى النّعمة اللّهيّة، وأصلهم متصوّفة، جمعوا بين فكر ابن عربيّ، والطّريقة القطبيّة عند المتصوّفة، ولمّا ساد التّشيّع في الدّولة الصّفويّة كانت في الابتداء ردّة فعل اتّجاه التّصوّف بشكل عام، والتّصوّف الطّرقيّ بشكل خاص، من قبل الفقهاء الّذين جلبوا لنشر الفقه الشّيعيّ من خارج إيران من قبل الصّفويين، وخصوصا الّذين أتوا من جبل عامل بلبنان، ولمّا قامت الدّولة القاجاريّة حدث انشراح للطّريقة، كما حدث لها إحياء، فجمعت بين التّسنن من حيث الطّريقة والقطب، وبين التّشيع من حيث المعتقد، وأصبحوا من غلاة التّشيع، وأصبح القطب يمثل رأس الإمامة اليوم، وأول رأس الإمامة عندهم عليّ بن أبي طالب، وله أتباعه الكثر، ولهم دستورهم الخاص، ولا يرون بالمرجعيّة، وإنّما مدارهم القطب، وهو ممثل الإمام الغائب، وهي اليوم محاربة في إيران من قبل المرجعيّات والفقهاء، ولما لهؤلاء من تأثير سياسيّ في المجتمع الإيرانيّ حاليا وسّع من دائرة التّضييق عليها.
ثمّ ذهبنا لزيارة مرقد عالم النّحو سيبويه (ت 180هـ/ 796م)، من تلاميذ الخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت 173هـ/ 786م)، وأصله من بلاد فارس، واستقر بالبصرة، وهو من علماء النّحو العظام حتّى لقب بشيخ النّحاة، ووضعوا له تمثالا منصوبا قرب مرقده، وكتب على لائحة باب مرقده “خانه فرهنك سيبويه”، ووجدنا الباب مغلقا، ولكن ممكن مشاهدة المرقد من فتحات الجدار.
ثمّ ذهبت لزيارة الحيّ اليهوديّ في شيراز، ويوجد فيه كنس قديمة، وطرقه ضيقة، لكنّه نظيف جدّا، والفرس يسمون اليهود كليميها أو كليم الله نسبة إلى النّبيّ موسى، وتأريخهم فيها قديم، حيث يعودون إلى ما قبل 2700 عاما، وقد حرّر كورش الكبير اليهود من الأسر البابليّ، لهذا هم يجلونه، ويرون أنّ الله أرسله لخلاصهم، ومنهم من لقبه بالمبعوث الإلهيّ، وقد كانت شيراز ثمّ أصفهان من مراكزهم القديمة، لكن حاليا يتمركزون في طهران، وينتشرون في مدن أخرى أيضا، ويبلغ عددهم قرابة خمس وعشرين ألفا، ولهم ممثل في مجلس الخبراء، وممثل في البرلمان، وتعتبر اليهوديّة أقليّة دينيّة معترف بها في إيران مع الزّرادشت والمسيحيين.
بعد زيارة الحيّ اليهوديّ، مررنا على جامع أمامه شجرة كبيرة، فسألني صاحبي الشّيرازيّ: أتعرف هذا المكان، فقلت: لا، فقال هنا كان بيت الباب، أي يقصد السّيّد عليّ محمّد الشّيرازيّ (1266هـ/ 1850م)، وأعلن دعوته بأنّه المهديّ الموعود للتّبشير بمن يظهره الله أي حسين علي النّوريّ الملقب ببهاء الله (ت 1309هـ/ 1892م)، في ليلة الخامس من جمادى الأولى عام ١٢٦٠ هـ / ٢٣ مايو ١٨٤٤م، وكان معه حسين البشروئيّ (ت 1265هـ/ 1849م) وهو أول من آمن به، ولقب باب الباب، ومن البابية كانت البهائيّة، والبابيّة انبثقت من الشّيخيّة عند الشّيعة الإماميّة، واعتبر البابيون والبهائيون هذا اليوم عيد المبعث، كما اعتبر هذا البيت وبيت بهاء الله في بغدد الّذي أعلن في دعوته مكان حجّهم وزيارتهم، وكان البيت قائما ويزار قبل قيام الثّورة في إيران 1979م، وبعد نجاحها حرّض بعض رجال الدّين على المكان، وحرّضوا النّاس والبلدية والشّرطة، فاستطاعوا هدمه والبيوت الّتي حوله، وحول إلى مسجد.
وفي يوم الثّلاثاء الرّابع من شوال، يوافقه 25 أبريل قرّرت مع صاحبي الشّيرازيّ محمّد ربيعيّ الذّهاب لزيارة معلم تخت جشميد، وهي تبعد حوالي ستين كيلو مترا من مركز شيراز، أي تحتاج حوالي ساعة، وفي الطّريق قريب الوصول مررنا على الغابة الّتي بناها الشّاه محمّد رضا بهلويّ (ت 1400هـ/ 1980م) في الصّحراء، وأقام فيها حفلا سمي لاحقا “العشاء الأخير”، حيث أظهر فيه البذخ والتّرف والرّفاهية، ممّا كلّف ميزانيّة إيران الكثير من المال، في وضع كانت تعاني فيه إيران اقتصاديّا ممّا جرها إلى الاقتراض، ومناسبة الحفل أنّه في أكتوبر 1971م يكون قد مرّ على فارس ألفان وخمسمائة سنة من حكم كورش الكبير (ت 529 ق م)، وعليه يكون محمّد رضا هو الشّاهنشاه أي ملك الملوك، وأحضر أغلب رؤساء العالم ومن يمثلهم، وأقام لهم غابة في الصّحراء مليئة بالزّهور لمدّة ثلاثة أيام، وأسكنهم في خيم فارهة، وأتى لها بأشهر الطّباخين الماهرين من فرنسا، ولسبب الحفلة بني المطار الدّوليّ في شيراز، هذه الحادثة أغضبت المعارضة من يمينيين ويساريين، كما أسخطت الشّارع الإيرانيّ، وكانت من أسباب سقوط الشّاه، وعموما لا زالت آثار الغابة والزّروع باقية حتّى اليوم.
ومعلم تخت جشميد يعود إلى الدّولة الأخمينيّة ويعني عرش جمشيد، وهي عاصمة الرّبيع في الدّولة الأخمينيّة، حيث لهم أربع عواصم موزعة على فصول السّنة، ويسمّى أيضا برسبوليس باليونانيّة، وبالفارسيّة القديمة پارسه، ومعناه مدينة الفرس أو فارس، ويعود إلى عام خمسمائة قبل الميلاد، وأمر دارا الأول (ت 468 ق م) بـبناء قصـر آبادانا، وكذلك قاعـة المجلس، وكانت تتصف بالأبواب الثّلاثة، بجانب خزانة الدّولة، ولا زالت إيوان الأعمدة باقية، وكذلك العديد من صور الحيوانات المنقوشة في الجدران، وصور البشر، كما يوجد أعمدة لوضع الميّت فيها لتأكله النّسور كما في الدّيانة الزّرادشتيّة، وتوجد سلالم من درجات الصّعود من الجانبين، ومساحة واسعة في الخارج، ورأيت العديد من السّائحين الأوروبيين يأتون على شكل أفواج سياحيّة، بجانب السّياح الإيرانيين، وعلى بعد اثني عشر كيلو يوجد نقش رستم، فيه نقوش حجريّة نحتت على الصّخر، ويضمّ أربعة من قبور فارس القديمة، والأصل نزوره لولا ارتباطنا بموعد ثقافيّ.