الرحلات

مذكرات حج 1435هـ

أتناول هنا أيها السّادة مذكراتي عن رحلة الحج 1435هـ، في خطوط سريعة أشير إلى أهم النّقاط والفوائد، والمصاعب والحلول.

في مطار مسقط:

ذهبنا إلى مطار مسقط الدّوليّ السّاعة الثّامنة صباحا، وطائرتنا كانت الخطوط الجويّة القطريّة، وممّا وجدناه لديهم التّسهيل الكامل، ومحاولة خدمة الحجاج، وتسهيل أمورهم بكلّ سرعة، وابتسامتهم لا تفارقهم، وحينها لا يوجد لدي بطاقة حج؛ لأنّ الوزارة أعطت تصريحا لكلّ ثلاثين حاجا أن يُسمح لشخص بخدمتهم ويعطى بطاقة خدمة، وكنت ملتحقا بالوعظ، وهذه فرصة لإعطاء البطاقات الرّسميّة لغيرنا خاصة ممّن لم يحج، ومع ذلك أعطينا ورقة فيها تصريح، إلا أنّ القائمين لم يكن لديهم علم ومع هذا تجاوبوا مع الموضوع بانسيابية[1].

تأخرتْ قليلا الخطوط الجويّة القطريّة عن الإقلاع من مطار مسقط الدّوليّ، وقدّمت اعتذارها ثلاث مرات، مرة عند الإقلاع، والثّانية حين استقرار الطّيران، وثالثا أثناء الهبوط، وثقافة الاعتذار ثقافة رائعة، وعمل نبيل.

في مطار حمد بالدّوحة:

نزلنا في مطار حمد بالدّوحة ظهرا، والمطار ضخم جدا، وفي قمّة النّظافة والنّظام، عندما دخلت دورة المياه هناك موظف بنجلاديشيّ يبتسم لك ويرحب بك، ويختار لك الحمام، ويتأكد من نظافته وتعقيمه قبل دخولك، ويحافظ على لوازمك الشّخصيّة، وفي المطار تجد الجميع مبتسما ومرحبا، من النّزول وحتى الخروج، وكان النّزول سريعا أقل من السّاعة، بعدها ركبنا طائرة أخرى، للوصول إلى مطار الطّائف.

في مطار الطّائف الدّوليّ:

نزلنا في مطار الطّائف وأذان العصر يؤذن، وكانت طائرتنا الوحيدة حينها هناك، والمطار صغير، فتُح دوليا تقريبا من سنة ونصف حسب ما أخبرنا، ومع هذا أمورنا انتهت بسرعة، خلافا لمطار جدّة، فكلّ من جاء عن طريق جدّة يتأخر من خمس ساعات فما فوق، ومعاملتهم كانت جيدة، والخدمات بالمطار متدنية، والنّظافة كذلك، وفرق كبير بين مطار حمد والطّائف في النّظافة.

أعدت لنا حملة المرشدون ثلاث حافلات كبيرة تابعة للنّقل الوطنيّ السّعوديّ، وموزعة الأسماء سابقا، وكنا نحن الوعاظ ثلاثة، فوزعنا على الحلافات، ولكلّ حافلة مجموعة من الإداريين لخدمة الحجاج، وكان نصيبي الحافلة رقم (2)، ووقفنا عند ميقات السّيل الكبير بالطّائف، وأُمِر الحجاج بعدم الاغتسال؛ لأنّهم اغتسلوا من عمان، وكلّ تأخير سيضرنا، فصلّينا الظّهر والعصر جمع تأخير في المسجد، وكان المسجد خاليا، وهو نظيف، والحمامات كثيرة ونظيفة، ومعدّة للاغتسال، ثمّ أحرمنا من الحافلة، وبعدها اتجهنا إلى مكة.

الانطلاق إلى مكة:

بعد دقائق من الانطلاق قابلتنا أول نقطة تفتيش، واستوقفونا جانبا، حيث مجموعة من رجال الأمن السّعوديّ، ويتسمون بالغلظة والشّدة، لا يكاد يبتسمون، ويصرخون كعادة البدو عند الخطاب، طلبوا الكشف لكلّ حافلة، وأخذوا عينات للتّحقيق، وكان لديهم جهاز مربوط آليا بين وزارة الحج السّعوديّة وبعثة الحج العمانيّة، وفيه جميع البيانات، فقط يدخلون رقم الجواز ويظهر لهم البيانات كاملة، الحمد لله مرّت الأمور بسهولة وإن تأخرنا أكثر من نصف ساعة.

الوصول إلى السّكن في مكة:

وصلنا إلى السّكن في جبل النّور بعد المغرب، وكان السّكن عبارة عن مدرسة مهيأة، فيها قاعة كبيرة للطّعام والأمسيات والمحاضرات، وأسماء الغرف موزعة على الحجاج مسبقا، وجدول المحاضرات والأمسيات مرتبا، واللّجنة الإداريّة للحملة بذاتها قامت بحمل الحقائب وإيصالها للأعلى، فصلّينا المغرب والعشاء جمع تأخير، ثمّ كانت وجبة العشاء، وبعدها الاستعداد لأداء العمرة[2].

الذّهاب لأداء مناسك العمرة:

ذهبنا إلى العمرة السّاعة العاشرة ليلا، وكلّ استقلّ حافلته، ووصلنا إلى الحرم، وبدأنا الشّوط الأول، إلا أنّ الزّحام كان شديدا، وكان عندي مجموعة من النّساء فصرخن يردن الخروج، لم يتحملن، وكان أغلب الطّائفين متنقلين، والقليل محرما، هنا تذكرت فتوى الشّيخ ابن عثيمين [ت 2001م] في التّشديد في التّنفل في رمضان والحج؛ لأنّه يؤذي مؤدي الفرض، والنّفل إذا يترتب عليه إيذاء لا يجوز، خاصة وأنّ مجموعة كبيرة تأتي على دفعات واحدة، فتسبب اختناقا شديدا، ويا ليت تعمم هذه الفتوى وهذا المقصد على جميع من أراد الحج والعمرة، ويُفقهون بها.

ذهبنا إلى الجسر المعلّق عند باب الملك عبد العزيز فقالوا مغلق للزّحام، اذهب إلى الثّاني فذهبنا، إلا أنّ الراغبين بالطّواف مجموعة كبيرة، ولن يصل دورنا إلا بعد فترة طويلة، فذهبنا إلى السّطح وهناك طفنا في حوالي ساعة ونصف مشيا بدون توقف، ثمّ سعينا والسّعي أخف.

عموما الطّواف والسّعي لم يكن فيهما حلاوة بسبب الإرهاق والتّزاحم، بل أحيانا تجد السّب خاصة عند التّدافع بين الركنين والمقام، والحمد لله على كلّ حال.

الذّهاب للتّسوق ومنطقة جبل النّور:

في أثناء التّسوق مررنا بمقبرة كبيرة ومرتبة ونظيفة، قال لي صاحب الأجرة والعهدة له في صحة كلامه دون أن أسأله: هذه مقبرة العدل، لا يدفن فيها إلا الأمراء والأثرياء، قلت له: ولماذا سميت بالعدل إذا؟ هل هذا هو العدل، فسكت ولم يكلّمني حتى وصلنا منطقة جبل النور الّتي نسكن فيها مع روحانية النّسك إلا أنّها للأسف مليئة بالأوساخ، وطرقها متكسرة، إلا أن أجمل ما فيها مكتبة جرير، فكانت قريبة منا واستمتعنا بها.

المشكلة في المملكة غياب مؤسسات العمل المدنيّ بصورة واضحة، ففي مكة لا تجد في الإدارة ظاهريا إلا رجال الأمن، وهؤلاء يتميزون غالبا بالغلظة، والعديد منهم غير مثقفين، أو الهيئات الدّينيّة وهؤلاء يركزون على الشّكليات، وسابقا كان يشيع قضايا التّبديع والتّفسيق أو ما يسمى بالتّوحيد[3]، ولطالما رأينا في المسجد بعد المحاضرات في السّنوات الماضية شجارا بين الصّوفيّة القائلين بجواز التّوسل بالقبور وهؤلاء المشرِّكين لمن قام به؟

لو فتحت المملكة لمؤسسات العمل المدني عندها لجميع الأطياف بالمشاركة، حتى الأطياف اللّبرالية مثلا، ففي المملكة إبداعات كبيرة شبابيّة ذكورا وإناثا، فضلا عن خارج المملكة، لكان الحج سوقا رائعا للعمل الإبداعيّ.

ولكن للأسف أصبح الحج مقتصرا على جوانب جزئيّة شكلا: إدارة وصحة وفقها!!!

كثيرا ما أزور منطقة النّور في مكة، زرتها في منتصف شوال الماضيّ وإذا بالطّريق محفور لإنشاء جسر فيه، وذهبت الآن بعد شهر ونصف فوجدت الجسر مع كبره قائما، إلا أنّه بقي في تشطيباته الأخيرة، بينما عندنا جسور أصغر منه بكثير يحتاج لسنوات حتى تتم وتكتمل[4]!!!!

ذهبت إلى السّوق (سوق الجعفريّة الشّعبيّ القريب من الحرم) ومعي من النّساء للتّسوق، مع أنّي لا أتسوق غالبا في الحج إلا لماما، ومن أماكن قريبة، إلا لوجود بعض النّساء هذا العام خرجت، وصاحب الأجرة طلب منا 30 ريالا سعوديا، وعندما وصلنا قال لي: والله شفتك مدّين والا آخذ 50 ريالا، أعطيته زيادة وتوكلت على الله، وعند الرجوع طلب صاحب الأجرة 100 ريالا سعوديا، ففي مكة نجد الاستغلال للحاج، وعدم اتفاق السّعر!!!

في سكن مكة:

في السّكن نجد الحجاج متآلفين، قلوبهم رحيمة، نجد العلم والمرح، الفكر والقرآن والحوار، الصّغير والكبير، الإداريّ والحاج، رئيس الحملة خادمهم، عندنا العقيد والدّكتور والمهندس والطّبيب والباحث والكاتب والمتقاعد، والمتعلم والأمّي، والذّكر والأنثى، كأنّهم أخوة لا تشعر بفروقات بينهم، فيا ليت هذه الصّورة هي القائمة بيننا أبدا، وهذا حلاوة الحج، تسليك عن أيّ مشقة وصعوبة.

يوم التّروية:

خرجنا في اليوم الثّامن يوم التّروية السّاعة التّاسعة صباحا إلى منى، وكان الطّريق مفتوحا، وهناك بحق تطور في إدارة الطّرق بعد منع سيارات الأجرة، إلا أنّ المشكلة الآن كثرة الدّراجات وضجيجها، وفي مشهد عجيب اصطدمت إحدى الدّراجات بإحدى الحافلات، ودخلت مقدّمة الدّراجة في أسفل الحافلة ونجا صاحبها بأعجوبة.

قبل سنة جرّبت إحدى الدّراجات وطلب مني 100 ريالا سعوديا في مسافة أقل من أربعة كيلو مترا، إلا أنني نطقت الشّهادتين أكثر من مرة للحالة الجنونيّة في السّياقة، مع إتقانهم لها!!!

وصلنا المخيم العمانيّ بسرعة، ولم نتأخر كثيرا، في حين قبل سنوات من خرج في التّاسعة قد يصل في الثّانية أو الثّالثة ظهرا، وربما أكثر بكثير[5]!!!

عند دخولنا للمخيم العمانيّ تذكرت الصّينيين والّذين من شرق آسيا، وهم يستقبلون النّاس في حدائقهم وملاعبهم ومطاعمهم، فمع كثرة الزّحام إلا أنّ الابتسامة وحسن الاستقبال أعظم ما يقدمونه لمن زارهم وشرّفهم، بينما ونحن ندخل مع أعضاء البعثة على الباب، إلا أنّ الجفاء في الاستقبال للحجاج[6]، وكأنّه بينهم وبين الحجاج بعدا ومشقة صنعت هذا الجفاء، حينها قلت ليت الدولة تضع حتى هنا أسيويين يعلمونا كيف نستقبل من هو في ضيافتنا، إن كان الدّين لم يعلّمنا؟!!!

في ليلة السّابع جاءني أحد الإداريين طالبا صورة شخصيّة لاستخراج بطاقة خدمة، والحمد لله كانت في حقيبتي مجموعة من الصّور لا تفارقني، فأعطيته واحدة، إلا أنّه لم يسلّمني، وتأخر الرّجل في منى لتجهيز الخيمة، وسلّمتُ سابقا بطاقة المرشدون، وهي بطاقة أخرى للخدمة خاصة بالحملة، وأنا أدخل مع الحجاج في منى أسمع صراخا من شخص شاركته مرتين في البعثة: بطاقة مزورة، بطاقة مزورة، حينها تمنيت لو انسدت السّماء علي، فلست بذاك ممّن يزوّر، وإذا برجل الأمن من جنسية أفريقية ظاهرا يأخذ بطاقتي ويقلعها بسرعة، قلت لهم هذا التّصريح، وكانت رسالة في يدي، وحدث كلام، وأُمْسِك معي شخص آخر من الحملة، بينما البقية ممّن عندهم نفس البطاقة دخلوا، عموما تدخل رئيس الحملة، وهو ذاته يحمل نفس البطاقة!!!، فكتب نائب البعثة أسمائنا أنا والشّخص الآخر، فسألت بعد فترة من أخذ الصّورة لأخذ بطاقة تصريح من البعثة: قال ذهبت إليهم وقالوا الآلة فيها عطل، ويكفي الورقة حتى حين، عموما عذرتهم، وإن كنت أرجو التّعامل يكون بصورة أفضل، خاصة من شخص يعمل معك وبينكما علاقة سابقة، وفي هذا المكان المبارك!!!

نعود قليلا مرة أخرى إلى ليلة السّابع، جاءنا رئيس الحملة، وقال إنّ الحملة في أزمة، فقد أنقص ثلث المخيم العمانيّ، وأخذت أكثر خيم المرشدون، فلا تتسع الخيم إلا للثّلث، وعندي فكرة أننا نقسم الرّحلة ثلاثا، ثلثان ينامون ليلة عرفة وثلث ينام في مكة، وثلث آخر ينام في مكة ليلة الحادي عشر، وثلث آخر ليلة الثّاني عشر!!!

قلتُ له: أمّا الذهاب يوم الثّامن فمن المندوب، وفي مثل هذه الحالة أرى أن نذهب إلى عرفة مباشرة جميعا من مكة صبيحة التّاسع، وبقي الليلتان ففيهما رخصة، وإن كنت شخصيّا غير مقتنع بالوجوب لأدلّة ليس هنا محل إيرادها، خاصة وهناك قول من تعذر المبيت فأقرب مكان يسكن، ونحن قريبون من منى.

عموما والحمد لله أرجعت بعض الخيم، وتراص النّاس في الخيمة في منى، وسيأتي الحديث عنها.

كذلك حدث لغط كبير، وكلام كثير بسبب إرادة السّعودية لقطع جزء من المخيم العمانيّ، فالأغلبيّة أخذتهم العاطفة، والبعض خاصّة من الإداريين كان متحاملا على البعثة، وقالوا يستحقون لعلهم يتعلّمون درسا، عموما لن أتحدث عن آراء الآخرين، لكن قلت لهم: بعثة الحج عندنا ضعيفة جدا جدا، وهي تُشكل قبيل فترة بسيطة جدا فلا نلومهم، ومكتب الحج في الوزارة يتيم، كان في السّابق غالبا مقفلا، فماذا ستقدّم، فأنت كمن ترى الذّئب والدّجاجة، ليت لو كانت لنا هيئة مستقلة تعمل طول العام، وقد كنت بدأت ألملم الأفكار لأكتب عن البعثة قبل الذّهاب لولا المرض، وسأكتب قريبا بإذن الله تعالى ما نويته[7].

ومن اللّغط الّذي حدث أيضا في الحملة قضية لحوم الهدي، فقد اعتادت الحملة تضع فريقا يعمل في مكة، وتستأجر أغناما، فالّذي يرمي جمرة العقبة الكبرى يوم العاشر يتصل بمندوبه، ثمّ يذبح له، فيرسل له رسالة مضمونها: تحلل بعد دقائق فيتحلل، وكان هذه عادتها، فخلّصت حجاجها من الانتظار في المعيصم لساعات طويلة، إلا أنّ اللّجنة اكتشفت أنّ هذه اللّحوم إمّا أن تباع من قبل نفس البائعين للأغنام، أو تأخذها البلدية فتدفن تحت التّراب، ولا توزع للمحتاجين[8].

فوجدوا تاجرا يبيع أبلا يشترك فيها سبعة، وضمن لهم صاحب الإبل إيصالها إلى المحتاجين بنفسه، إلا أنه سيذبح في الثّاني عشر، فاتصل أحد الإداريين بأحد الشّيوخ الكبار في الفتوى عندنا (لا أحبذ ذكر الأسماء هنا) فرخص له ما دام الحال ذلك.

فاجتمعوا بنا مغرب اليوم السّابع ككوننا وعاظ الحملة، فبعضهم تحسس وبعضهم تشجع، وهنا كما أسلفت أبين رأيي: أنّ المسألة في العقل الباطنيّ للحجاج عدم جواز ذلك، وهكذا كانت الفتاوى، خاصة وأنّ الشّخص لم يعطك فتوى مكتوبة وإنّما كان شفويّا، وهذا سيحدث لغط كبير، وقد حدث قبل سنة، عندما عقدوا مع أحد بائعي الأغنام، فخانهم لأنه لقى صفقة بسعر أكبر[9]!!!

والمسألة أصلا واسعة، وقد كان إخواننا المغاربة يذبحون قبل يوم عرفة؛ لأنّهم يرون تفسير الآية: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، أي عندما كانوا يسوقون الهدي فإذا بلغ المكان جاز التّحلل ولو ذبح سابقا، وهو قول أغلب المدارس الإسلاميّة اليوم، ومعمول به عن طريق بطاقة الذبح، حيث يجمع ويصل إلى المسلمين في العالم.

والحمد لله وجدوا تاجر أغنام، واشتروا منه، ولكن لا ندري هل وزّع اللّحم أم بيع أم دفن في التّراب، أم استلمته الجمعيّات الخيريّة!!!

والجميل أنّ رئيس الحملة اقترح في المستقبل أن تجمع الأموال، وما دامت مكة غنّية، يذبح بهذه الأموال أو تصرف في بقاع فقيرة من الأرض كأفريقيا وشرق آسيا وغيرها، وهو قول الشيخ شلتوت [ت 1963م] وقول كبير من الفقهاء، ويعمل به سابقا، عندما كانت تتضرر مكة مرتين: بالرّوائح الكريهة، وبجراثيم اللّحوم المتعفنة، فلعل مكتب الافتاء يدرس القضيّة جيدا، ويخرج بنتيجة تلائم الزّمان والمكان … لعل وعسى …

وصلنا إلى مخيم منى والحمد لله، كان الجوّ حارا، والمكيفات لا تعمل، ومن حسن الحظ أنّ الحملة وفرت بنفسها كراسي وهي أسرة إلا أنّه ما يميزها أنّك لا تلتصق بالثّاني لوجود حواجز، لذا لا ترى صاحبك أثناء النّوم، وهذا بخلاف الكراسي والمنامات التي توفرها البعثة[10].

عموما بالنسبة كان لي الأمر سهلا؛ لأنني كثيرا ما أتلائم في الجوّ الحار، إلا أنني رأيت العديد يتسبحون أكثر من مرة، وجباههم تعرق، ومنهم من أصيب بالصّداع لتغير الجوّ، ومع ضيق المكان، وفي اللّيل إذا أردت الخروج أحيانا تضطر للقفز، أو تحبس نفسك حتى تجد لك مخرجا لكي لا تؤذي الآخرين[11].

ومن اللّغط الّذي حدث في منى قضية جمع الصّلاتين، فهناك يرى الأولى الجمع لضيق الحمامات وقلّتها، وهناك يرى الإفراد وعدم الجمع باعتبار بعض المرويات، وقد كنت كتبت مقالا في هذا قبل سنتين، ومنشور في صفحتي على الفيسبوك، وذكرت قول القطب [ت 1432هـ/ 1914م] في النّيل في استحباب الجمع في منى، عموما الجميل أنّ المسؤول خيّر النّاس بكل أريحيّة، من أراد أن يجمع فليجمع، ومن أراد خلافه فلا بأس، فأفرد الأغلب، وجمع البعض وهم قلّة، ولم ينكر هذا على ذاك، وهذا روح الخلاف وجماليته.

والمخيم العماني في منى على علّاته كان أفضل حالا من حيث التّنظيم من السّنوات الماضية، وفرحتُ بوجود بعض التّغيير في الوجوه، مع بقاء الوجوه المسيرة ذاتها ونفسها، والحمامات أكثر نظافة نوعا ما، والأرضيّة مفروشة، وحدث تغيير في عناوين المطافات.

إلا أنّه هناك من الحملات من أخذت درسا، واعتمدت على نفسها كحملة المرشدون وقبا وغيرها، ومع هذا واقع التّكييف لا أدري ما سببه، ولا أعرف هل هو يعود إلى البعثة أم إلى المطوّفين السّعوديين، الله أعلم.

والإشكاليّة الأكبر ما رأيناه في إذاعة البعثة غياب النّص القرآنيّ بصورة واضحة هذا العام، فمع بيان القرآن للحج ومقاصده إلا أنّ هذه الآيات نسمعها على خجل في إذاعة البعثة مقابل كثرة المرويات[12]، وهكذا الحال في عرفة، وقد تمنيت الالتفات إلى مقاصد الحج للنّاس كالنّظام والمساواة والنّظافة والتّوحيد والطّهارة المعنويّة وغيرها والّتي فصلّت في سورتي البقرة والحج، كما يكثرون من مرويات فضائل بعض الأذكار والّتي هي محفوظة أصلا!!!

إلى عرفة:

قبل أن نبدأ الحديث عن عرفة، تحدّثنا سابقا عن غياب مؤسسات العمل المدني في المملكة، وإذا كان هذا من قبيل الكلّ؛ فإنّ البعثة العمانيّة لا نجد فيها شراكا مدنيّا أيضا، إلا في السّابق كانت الكشافة، ولم تكن حتى عام 2008م تعطى مكافأة كباقي العاملين في البعثة، عدا أنّ البعثة تتكفل بمصاريف حجهم، كذا كان يشرك بعض طلبة معهد [كليّة] العلوم الشّرعيّة.

إلا أنّ الحج فرصة كبيرة للجمعيات ومؤسسات العمل المدنيّ في بث الوعي الفكريّ والاجتماعيّ، وميدان خصب وكبير، لا ينبغي الاقتصار عند الجانب الدّينيّ الفقهيّ فحسب، وإن كنا نعذر البعثة في عدم القدرة على توفير المخيمات لما أسلفنا، إلا أنّ هناك فراغات يمكن أن تستغل، كما أنّ الخيم ذاتها يمكن أن تقام فيها العديد منها النّدوات وبعض المعارض المتنقلة من أجل بث روح التّوعية في كافّة مجالاتها، مع فتح أكبر مجال للمتطوعين من الشّباب ودعمهم إن لم يكن من الدّولة فمن المجتمع ذاته، وهذا ميدان خصب للتّنوير وبث المعرفة ونشر الوعي بمختلف مشاربه.

كذلك للأسف نجد في البعثة نقصا كبيرا في الكادر الدّينيّ ذاته قبل أن نتحدث عن الجوانب الأخرى، فعدد الوعاظ لا يبلغ أصابع اليدين، فكيف يتحمل هذا عشرة آلاف حاج على الأقل؟!!!!

كما أنّ العديد من القوافل لا تلتزم بقانون توفير واعظ، ولا تقوم بتفقيه الحجاج، وعدد النّدوات الّتي تقام قبل الحج ضعيفة، من هنا يحبذ تفريغ الوعاظ وإشراكهم في البعثة، فإنّ التّثقيف في الحج مقاصديّا وفقهيّا أمر مهم، والحجاج بحاجة إليه، وتفريغ الوعاظ ودعمهم، وهذا عملهم، وهو أمر لابدّ منه في واقع الحال.

في صباح الجمعة انطلقنا إلى عرفة، والحمد لله كانت الطّرق ميسرة، أسهل بكثير من السّابق، مع وجود مئات المشاة، وصلنا إلى مخيمات عرفة مبكرا في بداية السّاعة التّاسعة، إلا أنّها أسوأ بكثير جدّا من مخيمات منى، ومكيفاتها لا فائدة منها، والحمامات بها سيئة جدا، ومولّدات الكهرباء كانت قريبة، وتحدث ضجيجا كبيرا، فمع الحرارة كان التّلوث الصّوتيّ، ولكن الأمور مرّت على ما يرام والحمد لله تعالى، والعلاقة بالله والخشوع له في هذا اليوم هوّن الأمر ويسّره.

كان النّاس في الصّباح منهم النّائم ومنهم المستيقظ، ومنهم الّذي يأكل، وقد وفرت البعثة صناديق كثيرة تحوي وجبات خفيفة، إلا أنني في هذا السّنة لم أجد بها شعار البعثة كالعادة، ولعلّه كان الإعداد متأخرا، وكانت الخيم شبه فارغة، وهنا طلبتُ من أحد الّذين يخرجون في الدّعوة [جماعة الخروج] أن يلقي لنا بيانا (محاضرة) يذكرنا بالله والوقت، فلم يقصّر جزاه الله خيرا.

في ليلة عرفة لم أستطع النّوم إلا قليلا بعد الثّالثة فجرا، ثمّ الاستيقاظ الرّابعة؛ لأنّ الوقوف في الحمامات وانتظار دور الوضوء يحتاج أكثر من نصف ساعة وربما يزيد، ولكن يومها تحمّلت، واقتصرت على العلك بدل السّواك، عموما هذا أثر عليّ، فعند الحادية عشرة اكتظت الخيم بالنّاس، والعديد من النّاس افترشوا الأرض تحت حرارة الشّمس؛ لأنّهم لم يجدوا مكانا، فنادت البعثة على النّائمين بالاستيقاظ، وعلى المتفرقين بالتّراص توسعة لإخوانهم، هنا خسرت فرصة الفراغ في البداية، وعن جانبي فراغ ملتصق بالتراب، فقلت أمدّ رجلي وظهري قليلا لأنّه لن يجلس أحد هنا لمدة خمس دقائق فقط، وعندي صاحب من سمائل متقاعد من العسكريّة، وأنا أتحدث معه في دقيقة الامتداد إلا ويدخل شخص ويجلس جانبنا، ويظهر عليه آثار التّعب، فيرفع صوته أنّ المكان يتسع لشخصين مع أنّه ملحق بالتّراب،  وصعب اجتماع شخصين فيه، وأردت فقط القيلولة لخمس، إلا أنّ الرّجل جاء معتذرا بعد ذلك، وطالبا الصّفح، فقلتُ له لا خير فيك إن لم تنصحنا، ولا خير فينا إن لم نتقبل، والدّين النّصيحة، وقرأنا سورة العصر.  [وما أبرئ نفسي إنّ النّفس لأمارة بالسّوء].

ومن مشاهد عرفة الجميلة، كان معنا رجل في الحملة، لا أراه يدعو، وإنّما كان ينظف المكان، ويوسع لإخوانه، ويأتي لهم بالماء، قلتُ له: لماذا لا تجلس للدّعاء؟ قال لا أحفظ الدّعاء، ولكن لعل الله يغفر لي وتنالني دعوة حاج فأستغل الوقت في خدمة الحجاج وتهيئة المكان لهم، فهذا الحاج يعمل أفضل من عشرات الحجاج ممن يضيّع وقته في قيل وقال!!!

قبيل الظهر قام خطيب عرفة، وكانت خطبة عرفة لهذا العام رائعة، مقارنة بالسّنوات الماضية؛ لأنها خرجت عن المألوف، وذكرت قضايا معاصرة، وعلى رأسها قضية التّكفير وذبح الإنسان، وسألتُ لاحقا عن الخطيب فقيل لي الشيخ سالم بن مبارك الرّواحيّ من ولاية سمائل، ثمّ كان بعدها صلاتي الظّهر والعصر جمع تقديم، وبعدها الدّعاء الجماعيّ، وجزء منه فيما يبدو للمحقق سعيد بن خلفان الخليليّ – رحمه الله – [ت 1287هـ]ـ  كعادة العمانيين الدّعاء به في عرفة، ثمّ كانت الوقفة.

وأثناء الدّعاء الجماعي وصلت صناديق الغداء في الخيمة الّتي على يسارنا، فقام البعض بالأكل حثي جلس الأكثر والإمام يدعو[13]، أمّا خيمتنا فلم يصلها الغداء، وذهب البعض بعد الدّعاء لإحضار الغداء، فلا أدري هل تغدى الجميع أم لا، لأنّي سمعت بتدافع كبير عند مصدر توزيع الأكل، وهل هذا عمّ جميع الخيم أم لا الله أعلم، مع أنّ الغداء يوم عرفة على نفقة الدّولة، ويوجد سنويّا سوء في التّوزيع، لعلّه لقلّة العدد، والله أعلم.

ذهبت إلى دورة المياه بعد العصر، وكالعادة الانتظار، إلا أنّه سمعت صراخا في الخلف وضجيجا، وذلك لأنّه أحد الحجاج سقط مغميا عليه، ولعله من الحرارة وسوء الجو، فطلبوا توسعة المكان له، إلا أنّ الحمام غير مهيأ أصلا للاستحمام، ولا يوجد به أنبوب، فأحضروا إناء صغير (طاسة) وطلبوا منه الاستحمام.

والحمام الّذي بجانبه كان الأنبوب مكسورا، والماء يخرج باندفاع، والقليل من يدخله؛ لأنّه سيخرج ملطخا بالماء، والله أعلم بحال الحمامات الأخرى، فقط أذكر ما كان قريبا مني.

وهنا لا أدري لمن يرجع هذا إلى البعثة أم إلى السّعودية؛ لأنّه حمامات مزدلفة لأنّها عامّة نجدها جيّدة ونظيفة وبكثرة، مقارنة مع حمامات عرفة في المخيم العمانيّ، المسألة تحتاج إلى رقابة وبحث ومسائلة، وفي الوقت نفسه إجابة صريحة من المسؤولين ليعرف الحاج مصدر الخلل، حتى لا يظلم أحد وهو لا ناقة له ولا جمل، ولا تبخسوا النّاس أشيائهم.

كان التّشديد من قبل إذاعة البعثة في قضيّة الإفاضة، واعتبروا الإفاضة حتى بنية التّحرك أو بالتّحرك معصية[14]، مع أنّ المسألة خلافية، ومسألة رأي واسعة، فهناك في المخيم العمانيّ إباضيّة وسنّة أحناف وشافعيّة وحنابلة، وشيعة إماميّة، والمسألة غير متفق عليها حتى في المذهب، وإيصالها لحد المعصية الّتي تؤثر على الحج فيه نوع من المبالغة، والمعاصي – في نظري – تحتاج إلى دليل قطعيّ، أو تبقى المعصية من الصّغائر ومخالفة الأولى، وكان يكفي للمنبه أن يقول إنّه يكره ولا ينبغي، والأولى خلافه، بدلا من التّشديد الجازم في قضايا الخلاف، واتهام من أخذ بالرّأي الآخر بعدم اتباعه للسّنة!!!

وفعلا أثناء الخروج من المخيم العماني كان الازدحام والتّدافع في شدّته، فقلت سبحان الله: ربما نصف من في المخيم خرج فكيف لو كانوا موجودين، بل كيف لو كان حجاج عرفة أفاضوا جميعا دفعة واحدة، لحصل هلاك عظيم، وتدافع خطير، في منطقة غير منظمة، والخطوط متعارضة، من هنا نشعر بحلاوة الخلاف وسعته وجماليته عندما نحترم ولا ننكر ونعنف في قضايا رأي واسعة، والحمد لله.

الإفاضة من عرفات

قبل الحديث عن الإفاضة من عرفات تذكرتُ حادثة متعلقة بالوعظ، وهو أنّه أحد الأخوة المتقاعدين من الدّيوان، اتصل بهم بوجود كرسي مجاني لهم للحج، مع حملة مشهورة عندنا، فجاءني قبيل الذّهاب لأجيب عن بعض الأسئلة له، وقلت لا تخف هذه الحملة الّذي أعرفه أنّها تسكن قرب الحرم، مع البذخ في المأكولات، وعندكم الشيخ …. يذهب سنويّا كمرشد وواعظ في الحملة، وفي اليوم السّادس من ذي الحجة اتصل بي، وسألته أين تسكنون؟ قال في مزدلفة، وأبدى سخطه لعدم وجود واعظ ولا مرشد ولا دروس، وأنّه خائف مستقبلا في أيام الحج في منى وعرفة، فهم يعتمدون على أنفسهم واجتهادهم، أمّا الأكل والسّكن فجيد، قلتُ له: أليس معكم الشّيخ … ؟ قال: اكتشفنا هنا أننا في الدّرجة الثّانية، والشّيخ يكون في الدّرجة الأولى!!!

بعد غروب شمس عرفة أعلنت الإفاضة من المكبر الصّوتي للبعثة، وكبّر النّاس، وخرجنا، وأثناء الخروج كان الزّحام في شدته في المخيم العماني، فقلت سبحان الله لو أفاض الجميع في وقت واحد، لحدث هلاك وتدافع شديد، وهذا من رحمة الخلاف كما أسلفت سابقا.

أمّا في الخارج فالظّاهر أنّ الأغلب يفيضون مبكرا، أو يتقدّمون في الإفاضة، حيث المكان فاضيا.

وبالجملة كان الجوّ روحانيا، والنّاس فرحة بالحج الأكبر، والتّلبية مرتفع صوتها، فتقدّمنا إلى الحافلات حسب التّوزيع، أي في ثلاث حافلات، لكلّ حافلة مسؤول وإداريون وواعظ.

وفي أثناء الانتظار فقد أحد ممّن كان معنا أمّه، وكانت كبيرة في السّن، والحمد لله وجدها بعد فترة بسيطة؛ لأنّها ثبتت في مكانها، ولم تتحرك، ولو تحرّكت لغابت، وبالتّالي وجودها يحتاج لفترة قد تطول كثيرا.

انطلقنا إلى مزدلفة، وكانت هذه تجربتي الأولى في الرّكوب، حيث تعوّدت المشي في السّابق من عرفة إلى مكان المبيت حيث المشعر الحرام حوالي سبعة كيلو مترات، والمشي له لذه، وتلتقي بحجاج من العالم تتسلى مع بعضهم بالسّؤال والحديث، وفيه رياضة.

لم تستغرق الحافلات كثيرا، والطّريق مفتوح خلافا للسّابق، فوصلنا بسرعة، وخرج الرّكاب، ووجدنا الحملة هيأت كلّ شيء، وكان العشاء جاهزا، والحمامات في مزدلفة نظيفة وكثيرة، فتوضأنا، وصلّينا المغرب والعشاء جمع تأخير، ومن الحجاج وهم الغالب جمعوا الحصى للرّمي، على الأقل تسع وأربعون حصاة، لليوم العاشر سبع، والباقي للحادي عشر والثّاني عشر، ومن حسن الحظ وجدوا أكداسا من الحصى المجمع والمكسر، فكان تجميعهم للحصى في غاية السّهولة، أمّا أنا فجمّعت الحصى قبل الفجر.

ومن شدة التّعب لم نشعر بما حولنا من تلوث صوتي، فكان النّوم سريعا، إلا أنني استيقظت مرتين، مرة لصوت رنين إحدى الحافلات الكبيرة بصوت عالي وهم يفيضون بعد منتصف اللّيل، وبعدها استيقظت ابحث عن ماء بارد فرجعت القهقرى، ولم أجد الماء البارد.

وقبل ساعة من أذان الفجر استيقظنا على صوت رئيس الحملة وهو يكرر بداية سورة المزمل، فقلت له مازحا: ألا تقولون إنّ النّبيّ لا يقيم اللّيل في مزدلفة، فغير السّورة وقرأ بدايات سورة المدثر.

كانت الحمامات ليست مزدحمة إلا أنّ التّأخير يحدث بسبب الاستحمام، انهينا الغرض منها مبكرا، ورأيت البعض يقيم اللّيل، وهنا تذكرت عائشة [ت 58هـ] عندما تقيم اللّيل في هذا اليوم، وتأملت في سورة المزمل، وأحداث اليوم العاشر ليست بأكثر من جهد الدّعوة، والنّبي عليه السّلام فترة الوصول إلى مزدلفهم في زمنهم سهلة، وبالتّالي الاستيقاظ ليس صعبا، هنا دخل في نفسي الشّك من تلك الأقوال الّتي تبين أنّ الصّلاة هنا ليلة العاشر خلافا للسّنة، ورأيت العديد من النّاس يصلّون، والسّنة في الجملة ليست حرفا بل هي أبعاد ومقاصد، والحديث يطول حول هذا وليس هنا محلّه.

صلينا الفجر في مزدلفة، وبعدها كان الذّكر لفترة بسيطة، ثمّ بسرعة جمعت الأغراض، فركبنا الحافلات، ووقتها جاءت امرأة كبيرة في السّن وأخرى صغيرة، ومعهم رجل أعمى، وهم من البعثة المغربيّة، ولكونهم تائهين طلبوا الرّكوب معنا، فاستأذن الأخوة المسؤولَ وركبوا، وطلبوا إيصالهم إلى البعثة المغربيّة، فقلنا لهم لا نعرف موقعها، فعند نزولنا في منى انزلوا أنتم، ثمّ اسألوا من يرشدكم لذلك.

وحين بدأ الخروج إذا بحاج يضرب واجهة الحافلة الأماميّة بقوة طالبا من سائق حافلتنا التّوقف، وكان الضّارب من الحجاج العمانيين للأسف، وكان رافعا صوته ويضرب الحافلة بكلّ قوته، فغضب السّائق غضبا شديدا، وكاد يلقنه أبشع الألفاظ، وكان من الجنسيات العربيّة، يعمل في شركة النّقل الجماعي بالمملكة.

هنا ندرك أنّ الحج يحتاج إلى سعة بال، وحسن خلق، وأن يكون المرء سفيرا بأخلاقه وقيمه، مجسّدا طيبة وطنه، وعظيم قيمه.

انتظر صاحب الحافلة فخرجت حافلتهم، فأراد التّحرك، وإذا بالعماني يعمل الحركة نفسها لتخرج الحافلة الأخرى، وهنا السّائق لم يتحمل فحرّك حافلته بقوّة، والعماني يشتد غضبا.

وكنا نحن ثلاث حافلات ملتصقة، فهذه الحركة أخرت حافلتنا وكانت رقم (3)، فوصلنا متأخرين، وكنّا آخر من يصل إلى سكن مكة بسبب هذه الحادثة، ولحادثة أخرى سيأتي ذكرها بإذن الله تعالى.

في الطّريق إلى مكة ورمي جمرة العقبة الكبرى يوم النّحر

خرجنا من مكان المبيت في مزدلفة، وكان الطّريق يمشي ببطئ شديد، وكان معنا الشيخ عبد الله العيسريّ، وكان يربطنا بآيات الحج بعد كلّ نسك، ليلفتهم إلى التّربية القرآنيّة، ووصلنا تقريبا السّاعة الثّامنة قرب المخيم العماني بمنى، وكان هذا تطورا في السّير، ففي السّابق كان من العسير الوصول في هذا الوقت إلا ماشيا.

نزلنا جميعا، ومشينا، والمشكلة الأخرى كان أحد الحجاج معه أمّه، وكانت كبيرة في السّن، ولا تستطيع المشي، والمشكلة ترفض ركوب العربات، وهنا مشكلة توعويّة، فبعض الكبار في السّن حجوا، ووجودهم يمثل إعاقة للحملات، وكذا العجزة والمرضى، وكان بإمكانهم أن يزوروا المكان عمرة في الوقت المناسب، والمشكلة الثّانية أن النّساء الكبيرات والمرضى يشقون على أنفسهم بالرّمي فيتعبون غيرهم، خاصّة إذا كان التّنقل جماعيّا، والمشكلة الثّالثة يرفضون ركوب العربات تصورا أنّ المشي أفضل، مع أنّهم يقولون إنّ النبي حج راكبا!!!

وهنا أعجبتني كلمة لرئيس الحملة وهو أنّ الأجر في مراعاة الجماعة، لا في مراعاة الذّات، فهنا تعليم لتحقيق البعد الجمعيّ لا الذّاتيّ!!

وهنا انقسم الإداريون إلى قسمين، قسم الأغلب مع الجماعة الأكثر، وقسم مع العجزة، ووصلنا إلى الجمرات، وكان الطّريق سالكا، والمسافة من نقطة نزولنا إلى موقع الجمرات كيلوان وستة أمتار، فصعدنا إلى الطّابق الثّالث، وكان الأمن السّعوديّ ينظم سير الحاج، فرمينا جمرة العقبة الكبرى سبعا، ثمّ هنا أنا وصاحبي لم نجد الجماعة، لكوننا انعزلنا؛ لأنه لا يوجد معنا نساء، ولأنّه من كان معي من النّساء تقدّمن، فقال لي: ابحث عنهم وأرجع لك، ولكنه ذاته غاب، فقلت أنزل لأنّ الانتظار لا فائدة منه، فنزلت فوجدت الجماعة في الأسفل، وكان معهم، وإذا بهم يبحثون عن شخص غاب عنهم؛ لأنه قال سأمشي أمام الرّاية!!!

وللأسف كان هاتفه مغلقا، ولكن جاء اتصال، والظاهر أنّه استعار هاتفا من أحد الحجاج، وقال أنا عند شركة الاتصالات قريب شارع الحج، فذهب المسؤول ولم يجده، فقرروا التّقدم فوجدوه صاعدا في أحد الأبراج مع شرطة المراقبة السّعوديّة!!! وهو يلوح: أنا هنا أنا هنا، فغضب المسؤول: وقال قلتَ لنا عند الشّركة، قال نعم، قال له وأين الشّركة أليست في الخلف، قال سامحني، فقال له المسؤول مداعبا: اطلب المسامحة من الجماعة لأنّك أخرتهم، وهذا وقتهم …

صعدنا عقبة شارع الحج، ونزلنا عند موقف الحافلات في منطقة الشّشة، وانتظرنا بعض العجزة، وهؤلاء أخروا من معهم مرة أخرى، فوصلوا، وتحركت الحافلة، ووصلنا قرب الظّهر سكن الحملة بجبل النّور والحمد لله تعالى.

التّحلل الأكبر:

وصلنا إلى السّكن قبيل الصّلاة، وبما أنّ الأخوة ممّن وكل لهم الذّبح لم يعلنوا بعد الانتهاء من الذّبح أخذنا قسطا من النّوم، ثمّ قمنا للتّحلل، وكان معي بعض الأخوة من ولاية سمائل، وكان أحد حجاج الحملة يحلق بالموسى، ولكننا فضلنا الحلاق (آلة الحلاقة) فخرجنا فوجدنا المحلات مزدحمة، وكان هناك حلاق تركي اثنان منا فضلوه، أما أنا فقلت إذا كان الهنود مع سرعتهم متى ينتهون من حلاقة هؤلاء فكيف بالتّركي؟

فرجعت ومعي ثالث الثّلاثة، وفي الطّريق التقيت بأخوين ممّن درسا معنا في معهد العلوم الشّرعيّة، وكانا متأخرين عنّا بسنة أو سنتين لا أذكر جيدا، كانا قد وكلا بالذّبح من قبل البعثة، حيث كانا في اتجاه الحلاق التّركي، أمّا أحدهما فلم التقِ به منذ عشر سنوات، والثّاني لقيته في معرض الكتاب الماضي بعد عشر حجج أيضا.

رجعنا إلى السّكن، وكنت قد حملت من عمان آلة حلاقة (ماكينة) صغيرة، فطلبت من أحد الأخوة الحلق إن أمكن، فحلق النّصف من الرّأس وبقي النّصف الآخر؛ لأنّ الآلة لم تستطع الإكمال، وإذا به يصرخ من الضّحك على شكل الرّأس، فقلت له ما دمت أخذت شيئا من الشّعر على قول من سبق ولو شعيرات فقد تحللت، فكيف قد أخذت بنصف الرّأس، فغطيت رأسي، ووجدت باكستاني بالسّكن يحلق بالآلة، فأكملت النّصف الثّاني معه والحمد لله، أمّا صاحبي ثالث ثلاثة فذهب بعد الظّهيرة للتّحلل وقد قل طالبي الحلاقة.

طواف الإفاضة:

جلسنا في السّكن حتى صلاة العشاء، وهنا كسبنا الفرصة للمكوث أكثر في مكتبة جرير القريبة منا، وبعد العشاء صلينا، ثمّ انطلقت الحافلات الثّلاثة في تمام السّاعة التّاسعة إلى الحرم، لأداء طواف الإفاضة، وكنا مذبذبين هل نذهب إلى الأسفل للطّواف أم الأولى مباشرة الذّهاب إلى الطّابق العلوي، خشية أن يحدث نفس ما حدث في طواف القدوم فنتأخر؛ لأنّه عندي بعض النساء، عموما كان القرار أخيرا أن نذهب إلى الأسفل فذهبنا، ولم يكن الازدحام كبيرا، فطفنا بسهولة إلا بين الرّكنين اليمانيين، وخلف مقام إبراهيم.

وأثناء الطّواف الظاهر أحدهم تقيأ، ولكن حينها لم يمكن التّوقف، وهنا حدث بعض التّدافع، وإذا بعمال النّظافة بسرعة يحضرون لنظافة المكان.

طفنا طواف الإفاضة، وصلينا ركعتين، وشربنا من ماء زمزم، وكانت النّساء معنا يحملن زجاجات بلاستيكية صغيرة يملأن بها ماء زمزم كلّما أتين الحرم، مع أنّي ذاتيا لا أؤيد حمل الماء، ولا اعرف مصدر ما يروى عنه، والماء بذاته في أيّ مكان مبارك، وهو من نعم الله، وماء زمزم هناك نشربه فنعرف نعمة الله ونتوسل بهذه النّعمة لله سبحانه، ومع هذا لكلّ رأيه، وعلينا احترامه.

ثمّ ذهبا إلى السّعي في الطّابق الأسفل، وكان ميسرا والحمد لله، إلا بعض التّدافع القليل عند جبل المروة والصّفا، وهنا عادتي في وقت الزّحام لا أصعد بل أكتفي بعلامة انتهاء الصّفاء أو المروة حتى لا أوذي، فاعترضت امرأة كبيرة كانت معنا، فقلتُ لها الجبل كان أكبر وأكثر امتدادا، والمسعى كان أصغر بكثير، فنحن نزيد أكثر من الواجب، ونكتفي بذلك حتى لا نؤذي فنؤذى!!!

الرّجوع إلى منى ليلة الحادي عشر:

ذهبنا إلى الحافلات، وكانت السّاعة قرب الواحدة تقريبا، فانطلقت الحافلات إلا واحدة لم تتمكن لكونها لم يفسح لها المجال للوقوف من قبل الشّرطة، وهذه الحافلة الأصل تذهب إلى جبل النور لأنّ هناك ممّن أخر طواف الإفاضة إلى الوداع، ومن ثم تنطلق إلى منى، عموما انطلقت الحافلتان إلى منى مباشرة، ووصلنا آخر مزدلفة؛ لأننا أتينا من الخلف تجنبا للزّحمة، ومع هذا مشينا أكثر من كيلوا ونصف، ووصلنا المخيم السّاعة الثّانية ليلا، وكان الحجاج مرهقين بشدة، فلا هم ينامون فتذهب صلاة الفجر، ولا هم يصلّون لأنّه بقي ساعة ونصف عن الفجر، وعليه يتصبرون حتى يؤذن الفجر فيصلون وينامون، ومع هذا المخيم ذاته أشبه بالعذاب لحرارته وضيق المكان، فكيف يهنأ النّوم فيه!!!.

ولمّا دخلت البوابة سألوني أين بطاقتك، قلت لهم ليس عندي بطاقة، وإنّما هذا التّصريح الّذي أعطيتمونا إياه، وكنت قد تحدثت عنه، وهنا أحد الكشافة وكان تعامله حسنا جدا، وابتسامته مقدّمة أفضل ممّن استقبلنا بداية من أعضاء البعثة، وكأن معرفة بيننا ولكن لا أدري أين، أم سحر الابتسامة صنعت هذا الخيال، فشكله مألوف، أخذ التّصريح وسجّل البيانات، ومنها أنّ التّصريح من وزارة الأوقاف، ومختوم، ووو إلى آخره، قلت له التّصريح من عندكم وسبق إيصاله لديكم، قال لا بأس ولكن هذا تسجيل إدرايّ، ثمّ أعطاني أياه، وعندما أردت الذّهاب طلبه مرة أخرى، وقال أريد أصوره بالهاتف، قلت له تفضل، وصوّره صورتين، فذهبت والحمد لله.

ونأتي الآن إلى الحديث عن الحافلة الثّالثة، فهي كما أسلفنا لم يسمح لها بالوقوف، ولهذا قرروا الرّجوع عن طريق سيارات الأجرة إلى السّكن ثمّ هناك تأخذهم الحافلة، وكان معهم الرّئيس، وكنت الأصل معهم إلا لوجود بعض المحارم في الحافلة الثّانية، فرخص لي من أجل المشي مع المحارم أن أركب في الحافلة الثّانية.

وصل هؤلاء إلى السّكن مرهقين وبقي القليل من الفجر، واتصل بي المسؤول عن وجود رخصة للمبيت في جبل النّور، فقلت له لا عليكم شيء، وليتني كنت معكم فأفوز فوزا عظيما، وأهرب من عذاب مخيمات منى.

وفي الجملة لا توجد شريعة تبيح ما يحدث في منى، ونحن في عصر النّهضة العلميّة، ومن أتفه المكتشفات التّكييف والبناء الّذي يليق بالإنسان، ولكن هذه الأمّة لا زالت تسقط ثقافتها في منى، فمع وساخة المكان، إلا أنّ الحال سيئ جدا، والمكان مهيأ لانتشار الأمراض والأوبئة، فقلت ما الفائدة من التّطعيم؟ فلولا رحمة الله لهلك النّاس في هذا المستنقع المليء بالجراثيم والأوبئة!! أمّة تتحدث عن التّطعيم الّذي مع أهميته وخدمته لرؤوس أموال الصّانعين من الغربيين، إلا أنّها لا تهتم بالوقاية والنّظافة!!!

ومن العجيب أنّ المسؤولين الكبار وكبار الشّخصيات، وأصحاب الدّرجة الأولى بنيت لهم عمارات قرب الجمرات، وقد ذهب أحد الأخوة لزيارة أحد أصحابه ممّن حج معهم، فمنع من الدخول، وأخبروني – إن صح الخبر – لكل واحد غرفة خاصة، ويوجد حجر صحي عن مخالطة الآخرين، والعمارات ملحقة بالجمرات، وتحملهم الحافلات إلى قرب الجمرات، وهنا تذكرت فيما أشيع عن أحد شيوخ الأزهر المتأخرين إن صح ما ذكرته الصّحف عنه واستغفر الله إن لم يكن صحيحا، فقط نذكره ليس لذات الخبر، وإنّما لنكهة الخبر ولو لم يكن صحيحا، في جواز الرّمي لهؤلاء من الحافلات عن طريق رشاش مخصص لهذا، وهذه الفتوى أشيعت بعد مذبحة الجمرات قبل سنوات!!!

ومع هذا للأسف تجدد التّشديد في الفتاوى مع عدم وجود دليل واضح، وقد أخبرني بعض الأخوة ممّن لم يجد سكنا في منى لأنّه ذهب بدون تصريح، فاتصل بأحد المشايخ ممّن وكل بالفتوى، فقال اذهب إلى منى ولو بمقدار دقائق ثمّ اخرج، وكأنّهم يتصورون أنّ الذّهاب والرّجوع هينا مع واقع الحال، وضيق المكان، ووجود آراء أخف لمثل هؤلاء وأيسر لهم، وشريعة إبراهيم حنيفية سمحة والحمد لله تعالى.

مع أيام التّشريق ورمي الجمار:

تصبرت وأنا أحد الشّباب ممّن يدرس في معهد العلوم الشّرعيّة بقراءة ومذاكرة أحد كتب مصطفى محمود [ت 2009م]، وكان قد بقي ساعة تقريبا عن الأذان، فجاءنا أحد كبار السّن من البدو، فقال لنا مطاوعتنا في السّابق قبل الفجر يصلون، وأنتم تتحدثون، هنا مازحته برواية ابنة الإمام أحمد [ت 241هـ] مع الشّافعيّ[ت 204هـ]  – إن صحت الرّواية- عندما زار الشّافعيّ أحمدا، فراقبت ابنة الإمام أحمد الشّافعيّ وكان مشهورا بقيام اللّيل، فلم يقم اللّيل يومها، ولما أخبرت أباها، ثمّ أخبروا الشّافعي بالأمر، قال لم أنم اللّيلة وإنّما ذاكرت فيها أربعين مسألة، فمع تكلّف الرّواية، ومع هذا كانت جيدة هنا، حيث ذكرناها لتلطيف الجوّ.

هنا خرجت لأتوضأ ووجدت النّاس صفوفا، فاقتنعت كالعادة في مثل هذه الأحوال بالعلك والوضوء فقط، فرجعت وانتظرت الصّلاة، وصلينا الفجر وبعدها سقط النّاس من التّعب، ولكن ما هي إلا فترة بسيطة فكان المستيقظ والمار؛ لأنّ الحرارة أرهقتهم، والمكان كما أسلفنا غير مهيأ أصلا، والحمد لله على كلّ حال.

مر اليوم سريعا، وزارنا الشّيخ خالد العبدليّ، وتحدث عن الذّكر في القرآن الكريم، وبعد العصر ذهبنا لرمي الجمار، وكنّا خمسة رجال وسبع نساء، وفي الطّريق نزل المطر، فأحد النّساء صرخت من الفرحة وطلبت مني أن أدعو لكي يؤمنوا، فقلت ادعو في نفوسكم، فلم تتمالك إلا أن رفعت صوتها وقامت تدعو وكأنّها خرجت من سجن كانت فيه!!!

رمينا الجمرة الأولى والثّانية والثّالثة، ولما أردنا الرّجوع صرخت امرأة وقالت إلى أين: قلنا المخيم، قالت أرجوكم بالله، وأتوسل، خذونا إلى السّكن … إلى مكة … إلى أي مكان إلا المخيم، لا نريده، قلنا لها لا يمكن، إلا إذا أردتن المبيت في مكة، ولكنهن في النّهاية قررن الرّجوع وتحمل الأمر لليلة أخيرة!!!

في الطّريق وقرب المخيم العمانيّ بعد مفرق نفق المعيصم سقطت أحد النّساء، ولم تسطع الصّبر، هنا ذهبت لاستئجار عربة، فقال لي صاحبها وكان من أهل مكة، صغير بالسّن، نحملها مقابل ثلاثمائة ريالا سعوديا، أي ثلاثين ريالا عمانيّا وزيادة قليلا، فقلت له هذا المخيم وقريب، فقال هذا السّعر، فرجعت إليهم وأخبرتهم بالأمر، هنا جاء نفسه صاحب العربة بعد دقائق، وقال كم تعطوني، قلت له مائة ريالا أي عشرة ريال عمانيّ، قال لا مائة وخمسين، قلت له تفضل، فركبت العربة ووصلنا، والمسافة بسيطة جدا، فدخلنا المخيم، ولم يسألني البواب عن البطاقة هذه المرة، والحمد لله، وكنت حاملا للتّرخيص عموما.

رجعنا إلى المخيم، وصلّينا المغرب والعشاء، ورجع الأخوة ممّن بات في مكة، وقد رموا الجمار، وأعلن المسؤول جدول الغد، وفيه أنّ الحافلة لنقل النّساء ممّن يردن التّبكير وكبار السّن والمرضى ستأتي بعدما يرمى عنهن، والشّاحنة لنقل الأغراض ستأتي صباحا.

فتعجبت شخصيّا من هذا الخبر، وهذا التّكلف في انتظار خبر الرمي عنهنّ أو عن العجزة، وفي الصّباح ذهبت إلى المسؤول، ما الدّليل على هذا، وأنت تعرف وقت الإفاضة، قال إذا يوجد رخصة فالأمر أسهل لنا؛ لأنّه في المساء لا ندري كيف يكون الطّريق، وقلت له كيف نترك النّساء ونرمي عنهن، وخاصة قد أقنعت محارمي بالذّهاب مبكرا، وأنا أتوكل بالرّمي عنهن.

هنا المسؤول أرسل أحد الوعاظ إلى البعثة، فرجع وقال: قال لي الشيخ … إنّ السابقين يشددون، وتوجد رخصة، فقلتُ الحمد لله …

ومن الطّريف كان أحد البدو من الشّرقيّة جاء لزيارة بعض ممّن معنا في الحملة، وقال الحملة انقسمت عندنا إلى قسمين، الشّافعيّة أرسلوا نسائهم الآن، والإباضيّة تأخروا، قلت له أما ذهبتم ركن الافتاء بالبعثة، قال ذهبت وأخبرونا بالرّمي عنهن أولا، قلت له: ذهب أحد وعاظنا وأحضر لنا رخصة، وأرسلنا نسائنا، فما دريت إلا وقد قام بسرعة إليهم، فلا أدري بماذا ختم عندهم …

وعندما رجعت إلى عمان رأيت أحد الآباء ساخطا، قال هذا العام يشددون في الفتوى، قلت له لماذا، وذكر لي أن الإداريين والمرضى والنساء تأخروا حتى يرمى عنهم، فوصلوا مكة التّاسعة، والأمتعة معهم، فتأخروا في العشاء!!!

قلت له: الحمد لله من الإداريين عندنا ممّن تقدم، فتغدينا نحن المتقدمين في الرّمي في سكن النّور، ووجدنا الغداء جاهزا والحمد لله!!!

ما أريد إيصاله هنا ينبغي أن يكون المفتي مرنا في أمر يضيق على النّاس، وأوسع رأيا، فالأمر إذا ضاق اتسع، والسّير في منى يوم النّفر ليس هينا!!!

التّعجيل يوم النّفر:

قلت لأحد الأخوة من سناو: الحمد لله نسائي ذهبن فما رأيك نجرب التّعجيل لنرى الحال عند الزّوال، قال توكلنا على الله، فذهبنا ثلاثة، أنا والسناوي ورجل من بوشر، وفي الطّريق شاهدنا ثلاثة من كبار السّن العمانيين، وكان أحدهم يحمل حقيبتين، فرفض السّناويّ إلا أن يحمل عنه حقيبته، وكان الحديث متبادلا حتى وصلنا قرب الجمرات فافترقنا، هم ذهبوا من الأسفل، ونحن من الأعلى في المصاعد.

وعندما خرجنا من المصاعد كان الزّحام، والنّاس متوقفة وجالسة تنتظر الأذان، ووجدنا المئات يرمون، وقلت سبحان الله: ما أعظم سعة الخلاف، فهؤلاء أخذوا برخصة الرّمي قبل الزّوال، وهم أمّة عظيمة، فكيف لو لم توجد هذه الرّخصة.

هنا تقدّمنا، وعندما أعلن الزّوال رأينا النّاس ممّن جلس يركضون بقوة في مشهد عجيب، لم أره في حياتي، فرمينا عن أنفسنا ومن ننوب عنه، والحمد لله تعالى.

بعد عقبة شارع الحج، وكانت المسافة بعد العقبة إلى السّكن حوالي أربعة كيلوا مترا ونصف، إلا أنّ الأخوة قرروا استئجار سيارة، فصادفنا حافلة فقلنا له جبل النّور قال بمائتين أي عشرين ريالا عمانيّا، قلنا مبلغ كبير، ونحن في المشي جاء بنفسه وقال كم تعطون؟، قال السّناويّ: مائة، فوافق، وركبنا، ووصلنا مبكرا، ودفع المبلغ صاحب بوشر، ورفض أن نشاركه.

صلّينا الظّهر والعصر جمع تقديم، وتغدينا ثمّ نمنا، ووجدنا نسائنا والعجزة ومن الإداريين وصلوا قبلنا بكثير.

أمّا الأخوة الآخرون فوصلوا عند أذان المغرب؛ لأنّهم تحركوا بعد الرّابعة.

اليوم الثّالث عشر من ذي الحجة وطواف الوداع:

عموما كان اليوم الثّالث عشر مفتوحا، وتُرِك النّاس يتسوقون، وقرروا الفجر الذّهاب لطواف الوداع، فانطلقنا الثّالثة فجرا، ووصلنا وقد قامت صلاة الفجر، فصلّينا الفجر مع الإمام، وكان يقرأ آيات قليلة مراعاة للنّاس، وهذه حسنة في أئمة الحرم أنّهم يراعون النّاس أيام الزّحام فيخففون.

وبعدها صلّينا السّنة، وهنا أخذنا الطّمع، وقلنا نذهب إلى الأسفل، وأثناء الدّخول كان التّدافع الشّديد، وكادت تسقط أحد النّساء، فوصلنا إلى الصّحن، وقلنا ننظر، فطفنا الأول بكلّ مشقة وعسر، فلم تستطع النّساء الصّبر، وذهبنا إلى الوسط؛ لأنّ المعلق قد يأتي دورك بعد ساعتين أو أقل قليلا، فطفنا في الوسط، والحمد لله كان أيسر حالا، وبعد الطّواف صلّينا ركعتين، ورجعنا إلى الحافلة.

وأثناء الخروج حافلتنا لحقت قليلا سيارة صغيرة، فتوقف صاحبها في الشّارع ونزل يسبّ سائق حافلتنا، والجميع من جنسيات عربيّة، ومن بين السّب تلقينه بالحيوانات كالحمار، وأنّه سيحضر الشّرطة، هنا طلب المسؤول من السّائق عدم الرّد وأنّه سيتكفل، ولكن السّائق شمّر ساعدية، حيث يريد أن يدفع بذلك السّائق إلى الحافلة ليلقنه درسا وهو يسبّه أيضا، فأوقفه الأخوة، ونزل المسؤول ومعه أحد الإداريين وأخذوا سائق السّيارة الصّغيرة على جنب، وخاطبوه بحسن الكلام، ولين الجواب، فهدأت نفسه، وذهب روعه، وركب سيارته ومشى، فاستغل أحد الوعاظ هذا الدّرس العمليّ في حسن الرّد والتّعامل، ومدافعة السّيئة بالحسنة، وذكر بعض النّماذج.

الرّجوع إلى السّكن مرة أخرى:

بعد الطّواف رجعنا إلى السّكن، والوقت الباقي للذّهاب إلى الطّائف حوالي ثلاث ساعات تقريبا، وهنا جاءت مسألة الفطور، فقال أحدهم:  يرخص لهم في الأكل، وعندما سئل عن الاستحمام أجاب أنّ مشايخنا يشددون، وأنا أحترم بداية هذه الآراء، إلا أنّها مفتقرة للدّليل، وقد كنت سابقا أرغب في كتابة مذكرة كاملة عن طواف الوداع …

ولا بأس هنا أن أجسد بعض الملحوظات، فطواف الوداع لا يصل إلى الوجوب، فهو أقل ما يقال فيه الاستحباب، ورواية النّهي ظنيّة، قطفها الرواي عن أحداثها الجانبيّة، ولا ندري هل نطق بها النّبيّ – عليه الصّلاة والسّلام – هكذا أم لا، ولا يوجد ما يعضدها قرآنا، فهي على أقل الأحوال ندبا؛ لأنّ النّهي – في نظري – إن ورد عن طرق روائيّة آحاد لا يصل إلى الوجوب، ولا الأمر كذلك، ويبقى في دائرته الظّنيّة النّدبيّة أو الكراهة إذا كان نهيا…

ثم وإن سلّمنا أنّه يراد به الوجوب فلا دليل ما يمنع خلافه من أكل واستحمام وتسوق، والرّوايات هنا تتوقف عن ذكر ما فعله النّبيّ بعدها، وأين ذهب، وكذا صحابته، والتّشديد كان لأنّهم فهموا ما يخالفه، ووسعوا فيه، حتى أوصلوه لدرجة الدّم، مع أنّ الله تعالى ذكر الفدية التّخييريّة في واجب منصوص، فكيف لا تكون الفدية في ظنيّ مفهوم؟!!!

ثمّ ما الفرق بين الاستحمام والأكل، وكلاهما بلا دليل، والاستحمام ليس أقل حاجة، وقد رجع الطّائفُ بعرقه، وأنهكه الحرّ والتّعب، وتصوروا لو شدد في الأكل، وخرجوا بدون أكل ومنهم المريض والمتعب بل هم الغالب والأكثر، فلا أتصور شريعة سمحة تبيح هذا!!!!

والطّواف جملة له علاقة بختام عبادات الحج ندبا، لا بأعمال الإنسان الخاصة، فهذا أعماله هي جزء من حياته، وهذه عبادة جملة لا تشريعا.

العودة إلى الوطن يوم الرّابع عشر:

انطلقنا إلى مطار الطّائف، وودعنا مكة بين مدرسة النّسك ومجتمع الأخوة، ووصلنا الطّائف، وصلّينا الظهر والعصر في مسجد الطّائف، ثمّ انطلقنا إلى المطار، وكنا لوحدنا لا توجد حملات أخرى، إلا أفرادا ممّن شاركنا في الرّحلة من غيرنا، وغادرت الطّائرة الرّابعة والنّصف، ووصلنا مطار حمد في الدّوحة وصلّينا فيه المغرب والعشاء، ثمّ بسرعة كانت الطّائرة الأخرى، وبها وصلنا مطار مسقط السّاعة العاشرة والنّصف ليلا.

وفي مطار مسقط أعجبت بنظام البطاقة الالكترونيّ، وهو سريع جدا، وأخذنا حقائبنا، ووجدنا الأطفال في الخارج يرحبون بالحجاج، ويوزعون الزّهور والحلويات.

وبهذا نصل إلى ختام هذه الرحلة اختصرتها لكم مع مشاهد أخرى كثيرة، ولكن تجنبا للإطالة.

ولم أرد بهذا نقصا لأحد، أو مدحا لذات، بل ذكرت الشيء كما رأيته أمانة في النّقل، والله شهيد على ما أقول، وهو المبتغى وما عنده مأمول.


[1] هذا قبل تفعيل النّظام الالكترونيّ للحج.

[2] من المسائل الّتي يتصورها العديد من النّاس جهلا أنّه لابدّ أن تؤدي العمرة مباشرة من الوصول، وإن كنت متعبا، بل أنّه يؤدي النّسك بكلّ كلفة، ولا يكاد يشعر بالخشوع ولا الطّمأنينة، ومنهم من يكلّف نفسه بدعوى الورع، مع أنّ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – كما في الرّواية وصل ذي طوى بمكة وبقي فيها ليلة، وفي الصّباح صلّى صلاة الفجر، ثمّ اغتسل، وكان ذلك يوم أحد في اليوم الرّابع من ذي الحجة للعام العاشر للهجرة، وبعضهم يشدّ على نفسه ولو كان مريضا، وبعضهم يصل في وقت الزّحام فيذهب، وبعضهم يتورع حتى عن الاغتسال وتنشيط نفسه، وليس هذا من الورع في شيء، فالورع هو أن يؤدي الواجب بكلّ راحة وطمأنينة، لا أن يشدّ على نفسه، ويرهق ذاته!!

[3] الخلل كثيرا ما يحدث بسبب إثارة القضايا الخلافيّة بين العامّة، والعديد منها خلافها لفظيّ، تتسع دائرة الرّأي فيه!!

[4] تغير الحال حاليا عندنا، خصوصا مع الوزير الجديد للنّقل والمواصلات معالي أحمد بن محمد الفطيسيّ، فقام بإصلاحات كبيرة وفي فترة قياسيّة جزاه الله خيرا ومن أعانه وكان معه في الخير والبر والتّقوى والإصلاح والعمل والبناء.

[5] حدث تطور كبير في التّخفيف من الزّحام في الحج في السّنوات الأخيرة، ومع هذا تحتاج مكة إلى شبكة جديدة للطّرق، ووسائل معاصرة يليق بها كمكان.

[6] هذا ما رأيته في الجملة، وليس من باب التّعميم.

[7] كتبته والحمد لله في شوال 1436هـ بعنوان في سبيل إصلاح بعثة الحج العمانيّة، موجود في الأعمال الكاملة ج: 15، مرقون.

[8] ما تقوم به المملكة العربيّة السّعوديّة من استبدال الهدي بالكوبونات ثمّ يتم الذبح وتوزيعه لفقراء العالم أثناء العام موافق لمقاصد الله تعالى، فقد كانت ترمى اللّحوم لاستغناء النّاس عنها، لهذا رأى بعض الفقهاء سابقا كالشّيخ محمود شلتوت [ت 1963م] استبدالها بالنّقود لتحقيق الغاية، وما تقوم به المملكة حاليا تحقيق للغايتين: الإبراء وحسن تحقيق مقصد المنفعة من الشّعيرة، وأمّا مراد قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة/ 196]، وذلك لمن ساق الهدي معه، فلا يتحلل حتى يصل محلّه، أمّا الآن فالهدي في محلّه، وبدفع الكوبون برأت الذّمة، وتحقق المقصد، والله أعلم. 

[9] وذلك تقريبا في عام 1433هـ، حيث أبرمت الحملة عقدا مع أحد بائعي الأغنام، ثمّ وجد البائع سعرا أكبر، فباعها دون علم الحملة، وهنا وقعوا في حرج شديد، وحدث لغط؛ لأنّه حتى مساء العاشر، وفي وقت متأخر أغلب من في الحملة لم يتحللوا، وأموالهم دفعت، وبعضهم اضطر إلى التّحلل بنفسه مع دفع مبالغ أكبر، وحينها حدث غضب من البعض تجاه الحملة، مع أنّه ليس ذنبها، فإن قيل لهم تحللوا والحملة تضمن لكم بلاغ الهدي صعب إقناعهم؛ لأنّه في ذهنيتهم لا يجوز ذلك، ومع هذا فرّجها الله تعالى، إلا أنّ الليل كان متأخرا، والرّجوع إلى منى صعب حينها، فهنا قلتُ لهم: يجوز المبيت في منى، فاعترض أحد المتدينين: فقال لا يجوز، لابدّ أن نأخذ شيئا من اللّيل في منى، فاتصلنا بأحد المفتين في البعثة، فقال لا بأس، خاصة الضّعفاء والكبار أن يناموا في مكة، ومع هذا غضب هؤلاء وخرجوا ومعهم مجموعة إلى منى، ووصلوا قبيل الفجر!!!

[10] الآن أصبحت البعثة توفر نفس هذه المنامات أو قريب منها، وفي السّابق كان الكلّ ملتصقا بالآخر، وكأنّك في مقبرة جماعيّة!!

[11] ليت المملكة تعيد النّظر في مخيمات منى ومرفقاتها، فهي لا تليق بكرامة الإنسان، وتقدّمها العقل الإنسانيّ كثيرا!!

[12] وقد كتبتُ في هذا مطوية: مقاصد الحج في القرآن، وأضيف إلى كتاب الحج والعمرة خطوة خطوة بالاشتراك مع الشّيح محمد البوسعيديّ.

[13] ينبغي التّخفيف في الدّعاء الجماعيّ في عرفة وعدم التّطويل فيه، تسهيلا على النّاس.

[14] للإفاضة من عرفة أقوال أشهرها: يصح النّفر قبل الغروب، وقيل يجوز التّحرك إلى حدود عرفة قبل الغروب، وقيل يجب المكوث، ولولا سعة الخلاف لهلك النّاس أثناء الإفاضة.

السابق
الرّحلة الكويتيّة
التالي
أيام قليلة في القاهرة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً