الإشكالية في القتل ليس في تطبيق الفئات المتطرفة بقدر ما تكون الإشكالية أيضا في الخطاب التراثي والذي شكل الخطاب الدّيني المعاصر، حيث تعامل مع النفس من منظور ملي أو مذهبي، خلافا للخطاب القرآني الذي اعتبر النفس نفسا بغض النظر عن توجهها أو دينها، فمن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا، إلا في حالتي الاعتداء والقصاص، وبالتالي إذا كانت مؤمنة بالله يزداد جرما وبشاعة، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
حتى اليوم لا زالت المناهج التي تدرس في الكتاتيب الدينية تنص أنّ الناس ثلاثة قسم يقتلون إلا أن يدخلوا الإسلام وهم الوثنيون، وقسم يخيرون بين الجزية والإسلام وهم أهل الكتاب ومن قيس عليهم كالصابئة، والقسم الثالث هم المسلمون، ولا يفرقون بين المعتدي والمسالم، وجعل هذا في كتب العقائد لا السياسة.
وعليه اليوم من حق الجماعات المتطرفة أن تقتل ثلي العالم من القطب إلى القطب بدعوى هذا التقسيم الذي يلقى في عقول الناشئة هكذا بدون ضوابط ونقد.
عندما قامت داعش بقتل وسبي اليزيديين في العراق، صرخ الناس يمينا ويسارا، لكون اليزيديين أقرب إلى الوثنيين، وهذا الفعل تنص عليه كتب التراث، ويدرس ليس في الجامعات الدّينية، بل حتى في الكتاتيب للصغار، فداعش لم ترتكب جرما إلا أنّها أخرجت ما يقرأ ويدرس إلى الواقع!!!
وعندما قامت داعش أيضا بالسّبي فهذا شيء طبيعي فقبل أقل من مائة سنة، بل قبل أقل من ذلك بكثير، كانت السبايا والعبيد يؤتون من سوق النخاسة، وغالبهم من أفريقيا السوداء عندما يبيعهم السماسرة وأصحاب التجارة السوداء، فيأخذونهم بغير حق، ويباعون في الجزيرة العربية وسائر البلاد، وقد كان رجال الدين والساسة والتجار يشترونهم باسم أنهم عبيد، وهم أحرار ولدتهم أمهاتهم أحرارا، أخذوا بغير حق، وكان التقنين الفقهي البشري عاملا مساعدا في زيادته، لا في الحد منه، لعدم وجود قراءات نقدية له، فمن السهل أن تقرأ أن العالم الفلاني له كذا من العبيد والإماء، ولكن أنى له هذا، وكيف حصل عليه، وفي أي حرب استرق هؤلاء إلا من سوق النخاسة!!!
ثم إذا جئنا إلى التنظير المذهبي سنجد الغلاة لا يكفرون فقط من هم خارج المعتقد الإسلامي، بل يكفرون بعضهم بعضا، ففي كتب التراث عند البعض الروافض كفرة، وهم شر من وطأ الحصى، وعند آخرين النواصب أعداء البيت كفرة يقتلون إذا خرج المهدي، وقامت الرايات السود، وعند آخرين أيضا الخوارج كلاب أهل النار قتلهم قربة إلى الله تعالى، كذلك عند آخرين الصوفية عباد القبور لهم أحكام المشركين، من قتل وسبي، فهنا حتى لو قلنا إن الحرمة للإسلام لا للنفس فالمسلمون أنفسهم في كتب التراث كفرة عند الغلاة منهم بل لا أبالغ وأنا دارس علم الشريعة أن أقول عند أكثرهم إلا تقية وعند غالب العامة، فهذه مادة خام للمتطرفين!!!
وعندما استضاف داود الشريان ضيفه المتطرف، والذي يرى بوجوب إزالة القبر من المسجد النبوي، وعليه كفّر الدولة السعودية وعلمائها والزائرين المقرين لذلك، فاشتد الناس نكيرا عليه، ولكن في الحقيقة هو لم يخرج عن التراث، فقبل أقل من قرنين كانت الحملات ضد الصوفية في الجزيرة ونجد والبحرين والعراق بدعوى أنهم مشركون وقبوريون، ومن ذلك أنهم يبنون المساجد على قبور أنبيائهم كما يفعل اليهود، وهذا شرك، والإقرار به شرك، والرضا عنه شرك أيضا، فأسيلت الدماء في الجزيرة، بل حتى اليوم في ليبيا والعراق مثلا!!!، والرجل المتطرف هذا لم يأتِ بشيء جديد، فهو أدرك من خلال النصوص التراثية أنّ اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدا، ونحن اتخذنا قبر نبينا مسجدا، والصوفية والشيعة اتخذوا قبور صالحيهم مساجدا، وكما كفر الشيعة والصوفية وقبلهم اليهود بهذا فلماذا لا يكفر الساسة والعلماء والراضون اليوم بهذا، خاصة وأنه درس نواقض الإسلام العشر ومنها الموالاة في مثل هذا ونحوه، وعليه اعتبر هؤلاء كفرة تباح دماؤهم، كما أريقت من قبل ومن زمن بسيط دماء عشرات من المسلمين سنة وشيعة في الجزيرة وغيرها بنحو هذا؟!!!
واليوم يمتد التكفير ليس في الدين فحسب، ولا في المذهب أيضا، بل حتى في الخلاف الفكري، فأولها التصنيف؛ ثم وضعهم في دائرة الإلحاد والصهاينة واليهود والشيوعيين، ثمّ يأتي بعدها التكفير، ويعتبرون أخطر من أولئك، كما اعتبر غلاة أهل الحديث الأوائل أهل الرأي والبدع والخوارج والروافض أشد خطرا من اليهود والنصارى، وأن يصاحب ابنك يهوديا أفضل من أن يصاحب مسلما مبتدعا، واليهودي يُبتعد عن طريقه أما المسلم المبتدع فيتفل في وجهه، فأصبحت بغداد حينها وبعدها دما يسيل، وأمة تتقاتل، وهذا التراث لا زال يدرس اليوم بلا نقد، والدائرة تدور إن لم يدرك الأمر!!!
خلاصة ما تقدم لابد من وجود مؤسسات وليس أفرادا ناقدين، وعلى السياسات أن تدرك جيدا أنّ الخطر في الداخل أشد من الخطر من الخارج، وأنّ تقريب الغلاة، والتمييز على أساس الغلو المذهبي نتيجته سينقلب عليها هي ذاتها بعد حين، وأول النقد الانطلاق من ذات الإنسان، وإحلال القيم القرآنية، وإدراك أنّ الاجتهاد البشري طيلة التاريخ ليس وحيا بل خاضعا ومحكوما بكتاب الله تعالى.
فيسبوك 1435هـ/ 2015م