الكل يحسن أن يقص من أي كتاب تراثي لأي مذهب كان أنه قال كذا وكذا، كأن كفّر أو سب أو شتم، فهذا سهل بسيط، وأصبحت المادة متاحة للجميع!!!
ولكن في الواقع ليس من السهل الانطلاق من المشترك، ونقد ما وُجِدَ نقدا علميا، والبداية من نقد الذات!!!
ثم لكل مذهب تراث، والتراث مرتبط في كتابته بزمان ومكان، وأحداث معينة، فمن المعقول أن نجد فيه مما لا يتقبله الآخر، أو نجد فيه من التطرف بأنواعه!!
كتب التراث ليست وحيا إلهيا، وليست كتبا منزلة من السماء، هي كتب بشر، يخطؤون ويصيبون، ويتعصبون تارة ويعتدلون تارة أخرى!!
فالذي عاش في جبال عمان لا يرى غالب عمره إلا إباضية كالذي عاش في صحراء نجد مع حنابلة يراهم أقرب إلى الدين، وهكذا الذي عاش في أدغال إيران، أو غابات باكستان والسودان وغيرها، فشيء طبيعي أن يسقط ذلك في تراثه، لأن الذي يراه غيره مستهجنا لا يراه هو مستهجنا، بل يراه هو الدين!!
أما اليوم فقد دار الزمان ليتقارب الناس، ويختلطون في أسفارهم، ويتجانسون في مكان عملهم، ويتقاربون في مصلاهم وسكناهم، وهذا بلا شك سيصبح المخفي ظاهرا، والبعيد قريبا!!
فهنا نحن لسنا بحاجة إلى قصاصات نرميها كقنابل تزيد الضغينة بين الناس، وتزيد الفجوة في المجتمعات المتعايشة، بل نحن بحاجة أولا إلى الاعتراف بالآخر، وحقه في النظر والاعتقاد، ثم الحوار العلمي والنقد الذاتي.
إن كتب التراث كما أسلفت مرت في خطوط عريضة، وتأثرت بأوضاع سياسية ومجتمعية، لذلك ينبغي أن تصاغ اليوم لا أن تكون وحيا يزاحم الوحي القرآني، وسحابة تعوق التفكير والتعايش البشري.
نعم من أراد قصاصات سيجد من الإباضية من تبرأ من عثمان وعلي، ومنهم من كفر الكفر المعنوي، وسيجد عند الأشاعرة ممن أباح دم الشيعة والإباضية، ومنع أكل لحوم المعتزلة والزواج منهم، وسيجد عند الشيعة دعوى تحريف القرآن الكريم، وسب أمهات المؤمنين كعائشة وحفصة، ونسبة الزنا إلى عائشة، وسيجد في كتب الحنابلة تكفير أبي حنيفة، واستباحة دم من أتى بالنية عند الوضوء!!
بل سيجد الكثير الكثير، ولكن هل القصاصات هي الحل، إننا أمام أزمة عقلين: عقل يتعصب لكتب تراثه ويدافع عنه، ويبرر أخطائه، ولا ينقد ذاته!!
وعقل آخر يرى بعدستين، عدسة دقيقة في تراث غيره، فينبش أي خطأ، ويضخمه، بينما ينظر في تراثه بعدسة ملونة!!!
إن التراث واحد، فيه من جماليات المعرفة، وفيه أيضا من القنابل التي لو خرجت لأكلت الأخضر واليابس!!
فليس من العيب نقد الذات والتراث، ولكن من العيب أن نجعل من التراث طريقا يعوق الألفة في المجتمعات، ويكون حاجزا أمام العقل لينظر ويتقدم إلى الأمام.
لن تجد إباضيا اليوم يكفر عثمان وعليا، أو يعلن البراءة عليهما، فهم يفتخرون بهم، ويسمون أولادهم بهم تيمنها، ويدرسون سيرتهم وأقوالهم في مساجدهم ومدارسهم، ويسمون باسمهم مساجد ودور عباداتهم!!!
ولن تجد أشعريا يكفر المعتزلة والإباضية، ولا يأكلون لحومهم، ولا يتزوجون من نسائهم!!
ولن تجد شافعيا يمنع الزواج من مالكية أو حنفية إلا بعقد شافعي مثلا!!
ولن تجد شيعيا يقول اليوم بتحريف القرآن الكريم، أو أن جبريل أخطأ في تبليغ الوحي إلى علي وأعطاه محمدا!!
ولن تجد حنبليا يكفر أبا حنيفة، أو يستبيح دم من جهر بالنية في الوضوء!!
فإذا كانت المدارس والمذاهب تجاوزت هذه النظرة الضيقة، وانفتحت على الآخر، فهي قادرة أن تتجاوز هذه الكتب الصفراء، إلى عالم أكثر تعايشا وانفتاحا على الآخر.
هذا لا يعني أنه لا يوجد خلاف وتطرف، ولكن كما أسلفت في أكثر من مناسبة سببه التعصب للذات، وعدم نقد الذات، ثم تحميل ممن ينتسب إلى المذهب بأخطاء من سلف ممن انتسب إليه، كذلك غياب الربط الزماني والمكاني وأصل المصطلح لكل مذهب، فضلا عن الشراك الغيبي مع الله في دعوى الفرقة الناجية وتكفير الآخر، وإخراجه من الملة، وإباحة دمه!!
هذا لازال للأسف ونحن في القرن الحادي والعشرين موجودا، ولا زالت الأمة والأجيال جيلا بعد جيل تجني ثمرته المرة!!!
ولكن ليس الحل في قصاصات الكتب الصفراء، وإنما الحل بداية في احتواء الأخر كإنسان قبل أن يكون مسلما مختلفا عني في المذهب، وحقه في التفكير والشراك، ثم توسيع دائرة الحوار العلمي، والانطلاق بداية من نقد الذات قبل الغير، وترك الحكم الأخروي للخالق سبحانه وحده، فهو العليم بعباده، يدخل من يشاء في رحمته بعدله وفضله، لا بعدل مذاهبنا وفضلها!!!
فيسبوك 1439هـ/ 2017م