المقالات الفكرية

الانتماء الوطني وقيم المواطنة

منذ بداية البسيطة فطر الإنسان على التعلق بجزء معين من الأرض، منه ولد، وفي تربته ترعرع وكبر، ومن هوائه استنشق، ومن خلال مائه ارتوى.

هذا الوطن هو الأم الحنون لهذا الإنسان العاشق لهذا التراب، المخلص له، الباذل في سبيله النفس والمال، الساعي في رقيه وتطوره.

وقد أشرت في مقال لي سابقا بصحيفة عمان عن المناهج الدراسية والانتماء الوطني أن الجنس البشري وحدة كلية عامة كما يقول الفيلسوف سقراط وهو على فراش موته: أنا لست أثنيا ولا يونانيا؛ أنا مواطن عالمي، أي باعتبار أصل الجنس البشري.

فالجنس البشري باختلاف ألوانهم وأجناسهم وتوجهاتهم الدّينية والفكرية أصل جنس واحد، فهم مواطنون باعتبار الذات والأصل.

إلا أنّ الله سبحانه وتعالى كما شاء أن يتعدد الناس في لغاتهم وبشرتهم وخلْقتهم؛ شاء الله سبحانه أن يتباينوا في بيئاتهم وأوطانهم وبلدانهم، وهو من آيات الله تعالى في الكون، { وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}.

ومع تطور الحراك البشري، ظهرت أقاليم ذات حدود معينة، يسكنها مجموعة من البشر، يختلفون في جوانب من الحياة، ويشتركون في جوانب أخرى، فنجد بلدانا تضم شعوبا مختلفة لغة ودينا ولونا وتقاليد وأعراف، ونجد بلدانا أقل اختلافا أو أكثر من ذلك.

من هنا استطاع العقل البشري أن يتجاوز هذه المرحلة وهذه التعددية لتكون في حد ذاتها عنصر بناء للأرض والبلد لا عنصر صراع وشقاق، وذلك تحت ظلّ المواطنة أو الولاء للبلد والشعب الواحد.

وهذا ما فعله النبي –صلى الله عليه وسلّم- عندما هاجر إلى المدينة المنورة فوجد أمة مختلفة لونا فهناك الأبيض والأسود، ومختلفة دينا فهناك المسلم والمشرك واليهودي وبعض النّصارى، بجانب الاختلاف القبلي والاقتصادي.

إلا أنّ النبي –عليه الصّلاة والسّلام- أول عمل قام به هو تأسيس قاعدة الأخوة خاصة بين المهاجرين والأنصار، والأخوة صورة من صور المواطنة.

ثمّ كان دستور المدينة، وهو دستور مدني يحفظ للجميع حقوقهم، ويعطي للكل الحرية الدّينية والفكرية للعيش المشترك وفق المصلحة الواحدة.

والمواطنة والانتماء الوطني وإن كانت مصطلحا جديدا؛ إلا أنها مبدأ إنساني قديم نصّت عليه شرائع السماء، ورسالات الأنبياء، وهو تحقيق لكرامة الجنس البشري في استعمار الأرض وإصلاحها.

ولا شك أنّ المواطنة مقدمة على المصالح الفردية والقبلية والنسبية، بل وحتى العلمية والمالية، فالناس في أصل الوطن سواسية من حيث أصل الجنس البشري، فالعدالة والقسط بينهم على هذا الأساس، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

وعلى هذا الأساس تقوم الحياة في أي بلد أو مجتمع كان، وعليه يكون مؤسسات العمل المدني والحكم بين الناس، وبه تستقر الأوطان، وتتقدم وترقى البلدان.

والقيمة من قام بالشيء على الوجه الأكمل، و قيمة الشيء قدره، كما أنّ قيمة المتاع ثمنه، وسميت القيمة بهذا الاسم لأمرين: الأمر الأول الثبات، فلا تتغير بتغير الزمان والمكان، لذا أيّ متغير يدور وفقها إيجابا أم سلبا.

والأمر الثاني الديمومة، فهي لا تنتهي بمدة؛ لأنها من فطرة الإنسان نفسه، وفطرة الإنسان السليمة لا توقت بفترة، فلا يمكن أن يأتي يوم ويصبح الكذب هو الأساس، إلا إذا تأثرت فطرة الإنسان بملوثات خارجية، ولا أقول تتغير فطرة الإنسان، فهي لا تتغير ولكن تتأثر بضباب خارجي يؤثر على مجرى حياة الإنسان.

فالقيم هي الرابط في الدول المدنية بين أطياف المجتمع الواحد المتعدد في أشكاله، والمتباين في توجهاته.

ولا يمكن حصر هذه القيم في هذا اللقاء السريع، إلا أننا نشير باقتضاب شديد إلى أهمها، ومن أهمها القيم التالية: الإخلاص والعمل، وقيمة الحرية، والعدالة، والمساواة، والإنسانية، والبذل، والتضحية.

أما الإخلاص والعمل فهو شيء فطري أن يبذل الناس وقتهم، في خدمة أوطانهم ومجتمعاتهم، ولا يكون العمل محصورا على طلب الوجاهةـ وإكثار الثناء، وكسب المال، وإنما يكون العمل منطلقا من ذاتية البناء للوطن، ومشكلا لذاتية وفطرة الانتماء له.

لذلك يستغل الإنسان طاقاته، ويسخر مواهبه، لأن الطاقات تختلف، والمواهب تتباين، والاختلاف والتعددية قوة، والتوحد في هذه الجوانب ضعف بالفكر والمجتمع.

كما أنه لابد للمجتمع من فتح باب الحريات والإبداع، وتشجيع الشباب على ذلك، ودعمهم ماديا ومعنويا، فمتى ما وجد الشباب مجتمعا يحتضنهم، ويثمن مواهبهم وإبداعاتهم، هذا بدوره يسقط أثره على الانتماء الوطني، فيزدادون حبا لأوطانهم، وعشقا لمجتمعاتهم.

ثم تأتي أهم قيمة في الانتماء الوطني وهي قيمة الحرية المبنية على جانبين مهمين: الجانب الأول ذاتية الإنسان، والتي تتشكل هنا باسم ذاتية المواطن، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأنّ الأصل في  التعامل مع المواطن كونه إنسانا في الذات.

وأما الأمر الثاني فيتمثل في القوانين والأنظمة المنظمة لقيمة الحرية بين الناس، فيما يختارونه تنظيما لذواتهم ومجتمعاتهم.

والحرية جزء من التكوين الإنساني المنضبط، وكلما ارتفعت معدلات الحرية كلما ارتفع مستوى الانتماء الوطني، والعكس صحيح، فزيادة الاستبداد والإقصاء وقمع الحريات، يرفع معدلات الكراهية في الجانب الآخر، والذي يتولد عنه العنف المجتمعي، والفوضى المجتمعية، والذي يسقط ضرره على المجتمع والوطن ككل، فيكون هو المتضرر أولا وآخرا.

وأما قيمة العدل فتتمثل في كون المواطنين وفق قيمة كرامة الإنسان سواسية، وهم أمام القانون سواء، لا يفرقهم لون ولا جنس، ولا قبيلة ولا عشيرة، والقانون ينطبق عليهم جميعا، حكاما كانوا أم محكومين، أغنياء أم فقراء، فلا يجوز أن يقدّم شخص على آخر لنسب أو مال أو جنس، كما أنّه لا يجوز أن يكون الحساب محصورا على فئة معينة، والعقاب خاصا بفئة معينة من الشعب، والفئة الأخرى تعمل ما تشاء، سرقة وغصبا وكبرا وتعاليا في الأرض، ولا حسيب لهم ولا رقيب.

وعدم العدل بين المواطنين في الحكم والمال والثواب والعقاب والإبداع والشراك والتعليم والصحة وكافة الخدمات المجتمعية يؤدي إلى خلخلة المجتمع واضطرابه ولو بعد حين، والله تعالى يقول: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

ولا شك أنّ ارتفاع العدل يعني ارتفاع الانتماء الوطني، وإحلال محله المصالح الذاتية والفئوية، والتي ينشأ بسببها الطبقية والاستبداد والقمع، فلا يكون للمواطنة معنى في هذه الحالة، ولا للانتماء الوطني قيمة، لأنه ارتفع أهم عنصر في تحقيق ذلك وهو قيمة العدالة في الوطن الواحد!!

أما قيمة المساواة فالأصل فيها أنّ الله تعالى خلق الإنسان على قدم المساواة، لا فرق بينهم في جنس أو دين أو لون أو لغة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.

فالناس في أصل المواطنة سواسية، ثم يأتي العدل حسب الكفاءات والمواهب التي يمتلكها هذا الإنسان، والتي سيقدمها لمجتمعه، فهناك من يملك طاقات علمية وإبداعية، آخرون يملكون طاقات جسمانية، وثالث يملكون طاقات فنية وذوقية، وهذا ستتعدد المواهب، وهم في الأصل سواسية في حرية الإبداع والإنتاج، وفتح المجال لهم، وهذا بلا شك يعطي للانتماء الوطني قوته.

ولما تتوفر هذه القيم، وترتفع هذه الأسس يأتـي البذل والتضحية تلقائيا في الوطن الواحد، فمتى ما تعرض هذا الوطن لمرض سياسي أو مالي أو مجتمعي، نجد المجتمع يدا واحدة في توفير المناعة له حتى يشفى، لأنهم أدركوا قيمتهم كمواطنين في ظل وطن يراعاهم ويحتضنهم.

وهنا في الحقيقة يكمن الانتماء الوطني المبني على أسس عادلة بين الجميع، والذي يتحقق من قيم واحدة وذاتية بين الكل!!!

جريدة عمان 1437هـ/ 2017م

السابق
تحريم الصّور والتّماثيل
التالي
الانقلاب على أوردوغان
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً