جريدة عمان 1444هـ/ 2023م
يمر المجتمع البشريّ بكوارث طبيعيّة كزلازل وبراكين وأعاصير وفيضانات وأوبئة، كما يمر أيضا بكوارث يصنعها الإنسان كالحروب وصنع الأسلحة الّتي تفتك بالبشر، ويذهب ضحيّتها الأبرياء، وفي كلا الحالتين الطّبيعيّة والبشرية تبقى النّفس البشريّة واحدة، تجمعها ماهيّة إنسانيّة واحدة، لا تتمايز بين شرق وغرب، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين معتقد وآخر، فأيّ نفس يلحقها ضرر في أيّ جزء من الأرض كأنّما يلحق جميع المجتمع البشري، ويكون ضحيّتها جميع البشر.
هناك من يتشفى لحدوث حوادث طّبيعيّة أو بشريّة لأمّة ما، وذلك لاختلافات سياسيّة أو عرقيّة أو لاهوتيّة، فيفرح لدمار الآخر وهلاكه، وهناك من يجعل نفسه نائبا عن الإله ليحكم على البشر، فيجعل ما يصيب المختلف عنه في المعتقد من ضرر وكوارث في خانة الغضب الإلهيّ، فيفرح لذلك، ولو كان الضّحايا من الأطفال والنّساء.
كما أنّ هناك من يمايز في الإعانة والوقفات الإنسانيّة، فإنّ أصيب مجتمع ما يوافقه سياسيّا أو عرقيّا أو لاهوتيّا؛ استنفر إعلاميّا، وما يتبع ذلك من إغاثة ومساعدات ماديّة ومعنويّة، وإن أصيب مجتمع آخر يخالفه سياسيّا أو عرقيّا أو لاهوتيّا أكتفى بالسّكوت، أو بالحديث والمساعدة على خجل، وقد يتطوّر إلى عرقلة الإعانة، أو إصدار الأحكام اللّاهوتيّة المسبقة.
علينا اليوم ونحن نعيش عالما إنسانيّا واحدا أن نتجاوز الاختلافات التّكوينيّة الطّبيعيّة كاللّون والجنس، والاحتلافات الكسبيّة كاللّغة والدّين والمذهب والقطر، فهذه اختلافات في جملتها سننيّة في المجتمع البشري، لها جوانبها الإيجابيّة إذا ما نظرنا إليها من ماهيّة الإنسان الواسعة بين الكل، أو من مركزيّة الطّبيعة الواحدة عند من يرى ما بعد الإنسانيّة، أو من الرّحمة اللّاهوتيّة الشّاملة كما عند الغنوصيين والعرفانيين، أمّا إذا نظرنا إليها من الزّاوية الضّيقة كالعرق أو الهويّة أو الدّين أو المذهب ضاقت، وإذا ضاقت تصارعت وتنافرت، فكانت عنصر بلاء وهدم وفساد في الأرض.
فإن لم نستطع تجاوز ذلك ذلك في الرّخاء، فعلى الأقل أن نتجاوز ذلك في الشّدة والبلاء، فالبلاء ضرر يعمّ الجميع، ففيروس كورونا مثلا لمّا أصاب الصّين في الابتداء؛ فرحت أمم بذلك، لاعتبارات اقتصاديّة أو سياسيّة أو لاهوتيّة، فمنهم من اعتبره عقابا إلهيّا لهم، فإذا به بعد فترة بسيطة يعمّ العالم أجمع، وتغلق لانتشاره جميع دور العبادة في جميع الأديان، كما أغلقت بسببه المدارس والأسواق وغيرها من الخدمات، ولم ينقذ العالم إلّا العلم الّذي تعامل مع المرض طبيعيّا سننيّا، ثمّ تعامل معه إنسانيّا في العلاج بلا تفريق بين أحد.
كذلك هذه الكوارث الطّبيعيّة لا تفرق بين أحد، ولا تمايز بين دين وجنس ولون، فهي سننيّة في الطّبيعة وجدت منذ نشأة الكون، ولازمت تطوّره، ولا زالت تتكرّر بين حين وآخر، فمناطق تتأثر بالزّلازل بشكل متكرّر، ومناطق أخرى تتأثر بالبراكين والفيضانات والأعاصير، كما تتأثر مناطق من الأوبئة وشح المياه والتّصحر وارتفاع الحرارة أو موجات البرد القاسية، فهي حالة طبيعيّة سننيّة لا يصح أن تربط لاهوتيّا، ونعطي بها تفسيرات لاهوتيّة نمايز بسببها ومكان وقوعها بين البشر، فإن أصابت من يوافق اعتبرت رحمة وحبّا إلهيّا ضمن دائرة الابتلاء، وإن أصابت من يخالف أدخلت في الغضب الإلهيّ.
بل حتّى على مستوى الأفراد، فكل فرد يعاني من أمراض ونوافص تختلف عن الآخر، فهناك من يعاني من نقص في السّمع أو البصر، أو يولد وبه عرج أو تشوّه في الجسم، وهناك من يولد دميما، كما أنّ هناك من يكسب أمراضا بسبب الغذاء أو بسبب التّقدم في العمر أو الشّيخوخة، وهذه حالة سننيّة طبيعيّة، المجال فيها للعلم وليس للأحكام المسبقة.
ثمّ إنّ الله رمز المحبّة والرّحمة بين البشر، خلقهم من الابتداء مختلفين، يسودهم التّنوع والاختلاف الطّبيعيّ والكسبيّ، ولولا هذا الاختلاف لما استطاع الإنسان عمارة الأرض وإصلاحها، فمحبّة الله ورحمته تكمن في هذا الاختلاف بين البشر، وتحويل هذا الاختلاق السّننيّ إلى صراع وتمايز باسم الإله هو تأييد لنظريّة الشّر عند من يستند إليها من غير اللّاهوتيين.
لهذا ينبغي أن ننظر إلى المجتمع البشريّ، وما يصيبه من حوادث طّبيعيّة أو بشريّة بعين الحبّ والرّحمة، وبعين ماهيّة الإنسان الواحدة، حيث يكون المجتمع البشريّ على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وأديانهم وأقطارهم وهويّاتهم يدا واحدة في إعانة من أصيب بشيء من هذه الحوادث، مع التّخفيف عنه في البلاء، وتحقيق كرامته الإنسانيّة.
الله أخبر في كتابه عن العديد من الآيات الّتي أصابت الأمم السّابقة؛ لتحذر من سننيّتها الأمم اللّاحقة، فهو إخبار عن الغيب بمعنى الماضي، كما أنّه إخبار عن الغيب بمعنى النّسبة إلى الله، لكنّه لم يأمرنا أن نتقمص دور الإله في الحكم على البشر، فالحكم لله وحده، هو أعلم بعباده، وكل ذلك وفق سنن طبيعيّة أوجدها في الطّبيعة، على الإنسان البحث في هذه السّنن، وكشفها لخدمة الإنسان، كما له حق الوعظ؛ لكن ليس من حقّه أن يتقمص دور الإله.
وينطبق هذا تماما فيما حدث مؤخرا في تركيا وسورية من زلزال مرعب، راح ضحيّتها عشرات الضّحايا من مختلف الأعمار، فيجب على المجتمع الإنسانيّ أن يقف يدا واحدة في رفع هذا البلاء، وإعمار الأرض، والتّقدّم في العلاج الصّحيّ والنّفسيّ للأحياء وذويهم، وهذا ينطبق تماما لأيّ أمّة أو جنس آخر، فعلينا معاشر البشر أن نتجاوز اختلافنا في الشّدة والرّخاء، وأن نجعل من الاختلاق عنصر بناء وثراء، ويتحقّق صدق ذلك من كذبه في الشّدّة كهذه الكوارث قبل الرّخاء.
هناك اختلافات تحدث لاعتبارات سياسيّة أو أيدلوجيّة خصوصا في الوضع السّوريّ حاليا مثلا؛ ولكن يبقى الإنسان هو الإنسان، وهو بماهيّته أكبر بكثير من أيّ قطر محاط بحدود جغرافيّة أو إجرائيّة، فالإنسان يتمثل فيه صورة الجمال الإلهيّ، كما يتمثل فيه صورة الوجود بتعدّده وفنّه وجماليّته، فعلينا أن لا نفرق بين أحد، وأن نكون يدا واحدة مع الجميع لمشترك الماهيّة الواسعة.
وما حدث من دول خليجيّة وعربيّة ودوليّة، ومنها سلطنة عُمان، من تحرّك سريع من الابتداء، في إعانة المتضررين في الدّولتين، متجاوزين اللّغط السّياسيّ خصوصا؛ لهو صورة جميلة تجسّدت واقعا في خدمة الإنسان، كما أنّه درس إنسانيّ يكسر جميع الحجوزات الّتي تحاول أن تعوق ذلك، وأن تستغل الأحداث والخلافات الحاليّة لانتصارات فئويّة وهميّة، يكون ضحيّتها الإنسان ذاته.
إنّ المشترك الّذي يجمعنا مع سوريّة وتركيا، ممّن أصابهم هذا الحدث الأليم، مع الرّحمة لجميع الضّحايا؛ يجعل المسؤوليّة بالنّسبة لنا أكبر من غيرنا، وعنصر القربى في الجوار يرفع من درجة إلزاميّة المسؤوليّة في خدمة الإنسان، والّذي بلا شك سيتجاوز الإعانة إلى الإعمار، وعودة الحياة من جديد إلى طبيعتها، وإن كان الفقد مؤلما، ولا يمكن عودته، ولكنّ إرادة الإنسان قويّة، ولولا هذه الإرادة وتحمّلها لما عمرت هذه الأرض وأصلحت، فكم من خراب صنعه الإنسان فيها، وكما من بلاء كان بسبب طبيعتها وسننها، ولكن تجاوزها الصّالحون الّذين يصلحون الأرض ويعمرونها أمّة بعد أمّة، وجيلا بعد جيل.
فاليوم ونحن في عالم فضاء الإنسان الواسع، وفي القرية البشريّة الواحدة؛ لا أقل أن نتجاوز جميع الخطابات الّتي تفرّق بين البشر، وتسعد لأيّ كارثة تصيب أمّة ما، وتظهر رؤيتها الضّيقة في التّفريق بين البشر في الإعانة، بل علينا أن نجسّد الماهيّة الإنسانيّة الواحدة، إلى واقع إنسانيّ يقوم على المساواة والعدل بين البشر، فإن كان التّطبيق أبعد من ذلك، وأقرب إلى الأمنيات؛ فلا أقل أن يكون ذلك واقعا خطابيّا دينيّا أو ثقافيّا أو سياسيّا، فإن تحقّق الخطاب وفق ذلك، سوف يؤثر في التّطبيق بعد حين، ولو لأجيال تالية، فهي سنّة الحياة، حيث الكلمة والإرادة والتّضحيّة وفقها تؤتي ثمرتها بعد حين.