أنزل الله تعالى كتابه للعالمين جميعا: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، وجعله الله تعالى ميسرا للجميع، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
والتيسير القرآني تيسير رحمة، ليلتصق الإنسان بالله تعالى مباشرة، دون حاجز من بشر، وعليه كان الأمر الإلهي مباشرا في التدبر حيث الخطاب للمجموع حيث قال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، والواو في يتدبرون للجماعة وهي تفيد عموم الجنس.
وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، فقد وصف الله تعالى القلوب المتدبرة بالقلوب المغلقة بالأقفال، وفتح التعامل مع القرآن الكريم بالتدبر.
ووصف القرآن غاية الإنزال التدبر لهذا الكتاب حيث قال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ.
فهذه الآيات حث واضح على التدبر وهو عام للمجموع، وعليه نجد القرآن يربط القراءة بالتعقل وإعمال العقل، وبالنظر والسمع والتفكر، ووصف القارئ للقرآن بأولي الألباب والنهى، ليعطي العقل مساحة كبيرة بينه وبين القرآن مباشرة دون حاجز من أحد.
فمشتقات العقل مثلا في القرآن الكريم حيث نجد عبارة أفلا تعقلون تكررت ثلاث عشرة مرة، وعبارة لعلكم تعقلون تكررت ثماني مرات، وعبارة لا يعقلون تكررت إحدى عشرة مرة، وعبارة لقوم يعقلون تكررت ثماني مرات، وعبارة إن كنتم تعقلون تكررت مرتين، وعبارتي ما عقلوه ونعقل تكررت مرة واحدة، وعبارة يعقلون وتعقلون تكررت مرتين.
هذه المساحة الواسعة دليل كبير أنّ المجموع مطالب بالتدبر والنظر والتفكر دون حاجز أو إملاء من أحد، وإلا وقع في قوله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا.
والقرآن الكريم أشار في التعامل إليه إلى القراءة المقرونة بالتدبر والنظر ولم يشر إلى الحفظ، ولكن الناس يهتمون بالثانية أكثر من الأولى!!!
وهناك أربع مصطلحات اليوم يخلطون حولها ليجعلوا حاجزا بين المجموع والقرآن، وهي التدبر والتفسير والتأويل والاستنباط والمراجعة.
أما التدبر فيقول الجرجاني ت 816 هـ في تعريفه: هو عبارة عن النظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكرَ تصرفُ القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب.
وقال البيضاوي ت 685 هـ في قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أي يتأملون في معانيه، ويتبصرون ما فيه، وأصل التدبر النظر في أدبار الشيء.
ويتضح لنا أن التدبر مساحة واسعة جدا للنظر والإعمال العقلي، أما تعريفه بعبارة: تأمل القرآن بقصد الاتعاظ والاعتبار، هو تعريف قاصر في نظري، لأن القرآن أكبر من يقتصر على الاتعاظ والاعتبار، وهذا ما سنراه في مفهوم المراجعة.
أما التفسير فمصطلح لاحق لم يذكر في كتاب الله تعالى، والتفسير في اللغة هو الإيضاح والتبيين، ومنه فسر أي وضح وبين.
أما اصطلاحا فيعرفه الزركشي ت 794هـ بقوله: علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو التصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ.
فصار بذلك التفسير علم قائم بذاته، ولذلك وضعوا له شروطا، وصارت له أنواع متعددة، في السابق كان التفسير الروائي والتأريخي وهو الذي أطلق عليه التفسير بالمأثور، والتفسير البلاغي واللغوي، والتفسير الفقهي المتعلق بآيات الأحكام، والتفسير السيري أو النبوي المتعلق بسير الأنبياء ومنها سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن لم يفرد لهذا مؤلف فيما أحسب لكن الإشارة الضمنية واضحة في كتب التراث، ومن التفاسيرِ التفاسيرُ المتعلقة بعلم الكلام بين المسلمين.
أما اليوم فزادت أنواع التفاسير، فنجد التفسير النفسي والفكري والنقدي والاجتماعي، فظهر فهذا الإمام محمد عبده ت 1905م في الجانب الفكري، وسيد قطب ت 1966م في الجانب النقدي، والشيخ بيوض ت 1980م في الجانب الاجتماعي، أما النفسي فظهر متناثرا في كتب متعددة، كما ظهر التفسير العلمي كما عند الجواهري ت 1997م، والتفسير الإعجازي كما عند زغلول النجار.
وعليه نخلص من هذا أن التفسير في الأصل التدبر والبحث، ثم تشعب وصار منهجا وعلما قائما بذاته، وضم فروعا وأشكالا متعددة، وكانت له شروطه وقواعده وحدوده، والتفسير غير القرآن، وهو مفتوح للنقد والمراجعة، واختلط به الفهم البشري، مع الثقافات المتعددة، والصيرورة الزمانية، والتعدد المكاني، وتطور الآلة والمعرفة، كل هذا أثر في الجانب التفسيري.
أما التأويل فقد جاء ذكره في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.
والتأويل لغة من أَوَّل يُؤَوِّلُ تأويلاً، وثُلاثيُّه آل يَؤُول؛ أي: رجع وعاد، يقال: آل الشيء جمَعه وأصلحه، فكأنَّ التأويل جمعُ معانٍ مشكلة بلفظ واضحٍ لا إشكالَ فيه [موقع الألوكة الشرعية].
وقد اختلف كثيرا في بيان ماهية التأويل والفرق بينه وبين التفسير، فبعضهم اعتبره مرادفا كليا للتفسير، وبعضهم اعتبر التفسير أعم من التأويل، يقول الراغب الأصفهاني ت 502هـ: التفسيرُ أعمُّ من التأويل، وأكثرُ استعماله في الألْفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجُمَل، وأكثر ما يُستعمَل في الكتب الإلهية، والتفسير يُستعمل فيها وفي غيرها، فالتفسير إمَّا أن يُستعمل في غريب الألفاظ كالبَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحَام، أو في تبيين المراد وشرْحه؛ كقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وإمَّا في كلام مضمَّن بقِصَّة لا يمكن تصوُّرُه إلا بمعرفتها؛ نحوَ قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ.
وبعضهم اعتبر التفسير ما كان راجعا إلى الرواية والتأويل إلى الدراية، وهذا في نظري ليس سليما.
ويظهر لي والله أعلم أنّ التأويل هو إعمال العقل في فهم المراد، وحقيقته القطعية لا يعلمها إلا الله تعالى، ولذلك سيقع الناس في المتشابهات كما وقع في ذلك أهل الكتاب في التوراة والإنجيل، ومن هنا يلفت الله تعالى في الاهتمام والانطلاق بداية من الآيات الواضحات المحكمات.
ومع علم الله تعالى لحقيقة التأويل إلا أنه كما أسلفنا أعطى البشر المساحة الواسعة من النظر والتدبر، فلهذا نشأ علم التفسير، وبدأ يتطور في آلته، فيكون التأويل أعم من التفسير وليس أخص، ويدخل فيه التدبر والنظر والتفكر للمجموع.
أمّا الاستنباط فجاء ذكره في قوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا.
والاستنباط في علوم المنطق توصّل إلى المعرفة من مبدأ عامّ، أو عن طريق انتقال الذِّهن من قضيّة، أو عدّة قضايا هي المقدِّمات إلى قضيّة أخرى هي النتيجة وفق قواعد المنطق.
وفي اللغة بمعنى الاستخراج أو استخراج المعاني من النصوص بفرط الذِّهن وقوَّة القريحة، وجاء في معجم المصطلحات الفقهية تعريفه باستخراج المعاني الدقيقة من النصوص بعد المحاولة.
وعليه هناك فئة تستفرغ جهدها في التأمل والتدبر والمراجعة القرآنية، فتستنبط منه وتستخرج كنوزه ما ينفعها في دينها ودنياها، وهذا يعبر عنه بالتفقه أيضا في قوله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
أما المراجعة فهو مصطلح معاصر المراد به المراجعة القرآنية على الذات والمذهب والفكر، وذلك لأن القرآن الكريم وصفه الله تعالى بالهيمنة والتصديق، وهما عنصران مهمان في المراجعة القرآنية.
والمراجعة قديمة في أصلها، ومنها بعض المرويات كرواية ما من نبي إلا وقد كذب عليه من بعده، ألا وسيكذب علي من بعدي كما كذب على من كان قبلي، فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فهو عني، وما خالفه فليس عني.
وعموما موضوع المراجعة يحتاج بذاته إلى جانب مستقل، وقد أسهب فيه العديد من المعاصرين كالإمام محمد عبده ت 1905هـ، والإمام محمود شلتوت ت 1963م في الفتاوى، والشيخ الغزالي ت 1996م في العديد من كتبه، ومحمد أبو القاسم حاج حمد ت 2004م، وعبد الجواد ياسين ت 2015م، والأستاذ كمال الحيدري، وغيرهم كثير يطول بذكرهم المقام.
فنخلص من هذا المقال أن التدبر عام في أصله، والمراجعة مطلوبة من الجميع بلا استثناء.
فيسبوك 1436هـ/ 2016م