تقدمة:
السنة النبوية تشكل جانبا مهما في بيان النص القرآني، { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[1]، إلا أنّ هذه السنة العملية البيانية الواضحة أصابها خلل لأسباب عدة منها مثلا: تأخر التدوين والتدخل السياسي وغيرها، مما جعلها تبتعد خطا عن القرآن الكريم، وتكون حاكمة عليه، بالتالي أدى إلى التنازع الشديد في التعامل معها، وعليه من خلال النظرة السيرعة لمدونة أبي غانم الخراساني[2] ت (190هـ) سنجد الانطلاقة القرآنية بجانب العرض على العمل كأهم قاعدتين في التعامل مع الرواية، واخترنا المدونة لسببين: الأول قدمها التأريخي إذ تعود إلى القرن الأول الهجري، والثاني جمعها بين النص الروائي والعمل وهي سنة البيان التي أشار إليها القرآن، لفهم بعض مجملات النص القرآني، وإلا فإنّ الله سبحانه وتعالى بين أنّ الكتاب كامل لم يفرط فيه شيئا حيث قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[3]، وقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[4]
السنة والرواية:
بداية – في نظري – لا بد من التمييز بين مفهومي السنة والرواية، أما مفهوم السنة فقد تعددت تفسيراتها، ويمكن أن نعرفها بالتطبيقات التي أنزلها النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي غالبا تدخل في بيان وتفسير الكتاب العظيم ليكون واقعا حيا، لذا لا نجد فيها – في نظري-:
– مخالفة للقرآن.
– مخالفة للعقل.
– مخالفة للسنن الكونية.
– مخالفة للوقائع التاريخية المتفق عليها.
– ذكر أحداث غيبية أضيفت إليه عليه السلام.
– غالبا تكون المذاهب الإسلامية متفقة عليها.
– لا يوجد فيها تهويل في جانب الثواب أو العذاب.
أما مفهوم الرواية فهو أعم من مفهوم السنة، فقد حدث انفجار هائل في نهاية القرن الأول الهجري، وتم إضافة أحاديث إلى النبي عليه السلام إما لأغراض سياسية، أو لأغراض مذهبية فيما بعد.
ومن هذه الأغراض غرض انفتاح الناس على الحياة الدنيا، وانتشار المخالفات في جلسات السمر، والبعد تدريجيا عن الالتزام الديني، لذا ظهر مجموعة من الوعاظ نسبوا روايات ليس الغرض منها الكذب على النبي؛ ولكن هدفها حث الناس على اتباع الدين[5].
وبما أنّ صناعة السند ليس بالأمر الصعب كما يصور، لذلك وجدوا من الرواية متنفسا لهم، فوضعوا فضائل السور، وفضائل الأعمال، ووضعوا روايات الترهيب، كروايات عذاب القبر، ومنكر ونكير، وعذاب النار، بجانب روايات الترغيب.
من هنا زاد مجموع الروايات بعد ما كانت محدودة العدد، وبعد ما كان يشم منها رائحة النبوة؛ أصبحت يشم منها رائحة الوضع وتقزيم الدين وتشويهه بإبعاد الناس عن القرآن الكريم، وسنن الله التي لا تتغير، ووصف من يعمل عقله بالزندقة ونحوه[6].
فنجد مثلا: مسند الإمام الربيع (ت ق 2هـ)، ومجموع الإمام زيد (ت122هـ)، وموطأ الإمام مالك (ت179هـ) واضحة المعالم، مع محدودية الرواية مقارنة بمسند الإمام أحمد (ت241هـ)، وصحيحي البخاري (ت256هـ) ومسلم (ت261هـ)، والصحاح الأربع، فضلا عن الكافي للكليني (ت329هـ)، وكذلك ما يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ت381هـ)، وغيرها من المصادر الحديثية، فنجد الانبهار الروائي، مع مخالفة العديد من الروايات لقوانين القرآن والكون والعقل، ومع ذلك لقت قبولا واضحا عند المدارس الإسلامية.
ومع محاولة التصحيح بين الفينة والأخرى كما نجد عند العراقي (ت806هـ) في تخريج أحاديث الإحياء، والسيوطي في جامعه الصغير (ت911هـ)، والعجلوني (ت 1162هـ) في كشف الخفاء، والزيلعي (ت762هـ) في نصب الراية، ومن المتأخرين مثلا الألباني (ت2000م) في سلسلته، ومن الشيعة مثلا حسين المؤيد (لا يزال على قيد الحياة) كما في استفتاءاته، إلا أنّ الألف عام من ظهور الرواية ومحاولة التصحيح بين الفينة والفينة؛ أثبتت هذه السنوات عجز منهج أهل الحديث في علاج الأزمة من خلال التركيز غالبا على السند.
ولو كانت المسألة متعلقة بالتطبيقات العملية لكان الأمر هينا؛ بل أصبح الأمر متعلقا بالأمور الغيبية؛ وتغييب القوانين القرآنية، وتقديس شخصيات بشرية، وتأويل القرآن تأويلات سياسية ومذهبية، نحو روايات الجزاء، والتشبيه والتجسيم، والإمامة والولاية، وتحريف القرآن، وغيرها من الأمثلة يطول بها المقام.
وإذا جئنا إلى المدرسة الإباضية في فترتها المبكرة أدركت خطورة هذا الانبهار، لذا حاولت الحدّ من الانفتاح الروائي، ليس في الاعتقاد والسياسة فحسب؛ بل حتى في الجانب العملي، ولنظرب على هذا بمثالين:
المثال الأول: مسند الإمام الربيع بن حبيب[7]: ومع عمق المدرسة الإباضية الأولى من حيث المدارسة الحديثية بتسلسل السند واتصاله (تابعي صحابي)؛ إلا أننا لا نجد تلك الروايات التي تخالف القوانين القرآنية حتى في الترغيب والترهيب غالبا، ولنظرب مثلا مرويات فضائل رمضان والتي جاء ذكرها في المسند فهي أربع روايات تتوافق كليا مع القرآن الكريم وقوانينه، فهي كالتالي[8]:
– من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ولو علمتم ما في فضل رمضان لتمنيتم أن يكون سنة.
– خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فارق عبدي شهوته وطعامه من أجلي، فالصيام لي وأنا أجازي به.
– لا إيمان لمن لا صلاة له……إلى قوله: ولا صوم إلا بالكف عن محارم الله.
– الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرء قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم.
حيث لا نجد في الروايات تفخيما للترغيب، وكذا كانت وفق القانون القرآني: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[9]، وقوله سبحانه: { ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إنّ الله غفور شكور}[10].
المثال الثاني: مدونة أبي غانم الخراساني[11]
نجد الإباضية الأوائل كما أسلفنا يحترزون كثيرا من الرواية، لما شاع فيها من الكذب والتدخل السياسي والمذهبي فيما بعد، لذا تجدهم يعرضونها على أقوال أئمتهم جابر بن زيد ت (93هـ) وأبي عبيدة ت (150هـ)، والذين أخذوا عن صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وهذا قريب جدا من منهج الإمام مالك بن أنس (ت179هـ) ، فقد كان من أصول مذهبه في قبول الرواية الآحاد عدم مخالفتها لعمل أهل المدينة، حيث يقدّم عمل أهل المدينة، فهم الذي تسلسل فيهم العمل عن طريق كبار التابعين فالصحابة الذين عاش الرسول عليه السلام أكثر وقته بين ظهرانيهم، ومن أمثلة ذلك السدل في الصلاة، وإن روى مالك حديث الضم إلا أنه معارض لعمل أهل المدينة، فقدّم العمل وهو السدل على حديث الآحاد، ونحو ذلك حديث صلاة ركعتين إذا دخل المصلي المسجد والإمام يخطب، فقد كان أهل المدينة يجلسون، وهم الذين أدرك آباؤهم وأجدادهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وصلى بهم عشرات من الجمع، فهل يعقل أن لا يتأخر رجل منهم إلا مرة واحدة فينكر عليه الجلوس، لذا كان منه أن قدّم العمل على حديث الأحاد[12].
وهذا ما ذكره الأستاذ أحمد شاكر ت (1958م) عن الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة ت (1972م) في التفريق بين مصطلحي الحسن والصحيح عند الترمذي ت (279هـ) قوله: … والذي يظهر أنّ الحسن في نظر الترمذي أعمّ من الصحيح، فيجامعه وينفرد عنه، وأنّه في معنى المقبول المعمول به، الذي يقول مالك في مثله: وعليه العمل ببلدنا، وما كان صحيحا ولم يعمل به لسبب من الأسباب يسميه الترمذي صحيحا فقط، وهو مثل ما يرويه مالك وليس عليه العمل، وكأنّ غرض الترمذي أن يجمع في كتابه بين الأحاديث وما أيدها من عمل القرون الفاضلة من الصحابة ومن بعدهم، فيسمي هذه الأحاديث المؤيدَة بالعمل حسانا، سواء صحت أو نزلت عن درجة الصحة، وما لم تتأيد بعمل لا يصفها بالحسن وإن صحت[13].
ومن الروايات التي ردّها أصحابنا الأوائل لمخالفتها العمل وأقوال الثقات الذين أخذوا دينهم من طريقهم روايات القنوت، فقد جاء في المدونة ص84[14]: … أسألك عن الذي يفعل هؤلاء بعد الركوع، يقومون يدعون ويتهللون وهم قيام؟ قال: هذا أمر محدث، لا نعرفه ولا نأثره عمّن مضى من خيار هذه الأمة.
كذلك نجدهم لم يعملوا بروايات التوقيت في غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب وذلك لأنّ الأصل هو التنقية، فتحرَّز من العمل بالرواية حتى ولو على سبيل الاستحباب خشية أن تكون ليست صحيحة عنه – عليه السلام -، أو مخالفتها ما جرى العمل عليه، فيقدم العمل على الآحاد، ففي المدونة: قلتُ – أي أبا المؤرج ت 205هـ- أتوقت في غسله ثلاثا أو سبعا كما قال هؤلاء؟ قال – أي أبا عبيدة (ت150هـ) -: لا أوقت في ذلك وقتا دون حسن التنقية والغسل، فإن أنقاه في مرة واحدة فليتوضأ به[15].
فعلى هذا نجد الحذر الشديد من أصحاب المدرسة الإباضية الأوائل في قبول الرواية، ثم حدث التساهل من القرن الثالث الهجري تقريبا، أو نهاية القرن الثاني الهجري[16].
ثم بدأ التغلغل في الفضائل والتي أجيزت عند عموم الأمة نقلها من طريق ضعيف، إلا أننا نجد في التطبيق العملي لا زالوا يأخذونها بحذر مع مراعاة أقوال المسلمين، أما في الاعتقاد فعندهم مبدأ عدم الأخذ بحديث الآحاد، وجعل القرآن محكما للرواية في هذا الجانب[17].
ولكن في الفترة المتأخرة بدأ تغلغل الرواية في كتب التراث الإباضي العماني في الجانب العملي بصورة كبيرة جدا[18]، مع الحاجة إلى بحث استقصائي في الكتب المتأخرة لتحديد الفترة الزمنية، إلا أنّ جانب الاعنقاد ظلّ مصونا عن التغلغل الروائي بصورة كبيرة.
الخطاب القرآني عند الإباضية منطلق للرواية:
يعتبر الخطاب الإباضي من أقدم الخطابات في المدارس الإسلامية لتقدم نشأتهم التأريخية، وعدم اقتصارهم في الحياة على الجانب العملي النظري فحسب، بل اهتموا بالجانب التطبيقي في نظرتهم إلى الحياة بوجه أخص، مع اهتمامهم أيضا بالجانب السياسي، فلذلك تجد الفقه الإسلامي فقيرا في الجانب السياسي خلا الإباضية الذين كان لهم تنظيرهم وممارستهم العملية السياسية طول التأريخ.
والمتأمل في الخطاب الإباضي في المؤلفات الأولى يجده ينطلق من القرآن الكريم، في جميع خطاباته، الفكرية والعملية والسياسية والمالية والمجتمعية، لذا سنجد الأدبيات القرآنية في نقد الآخر حاضرة، والبعد عن السباب والتنابز بالألقاب وسوء الظن وغيرها من الأدبيات القرآنية من أهم المنطلقات في التعامل مع المخالف، خلافا لكتب التراجم عند أهل الحديث خصوصا.
ولذا لم تستطع الرواية أن تخترق الفكر القرآني إلا بحذر شديد، وعليه وإن حدث بعد القرن الثالث تساهل نوعا ما في الجانب الفقهي، إلا أنّ الجانب العقدي والسياسي بقي قرآنيا، وكذلك التعامل مع المخالف.
ونحن لا نلغي الاستفادة من مناهج البشر، ولكن تحت غربلة قرآنية، والانطلاق من القرآن ذاته، ليس في نقد مناهج البشر، بل حتى في نقد المذهب الإباضي ذاته، ولا ضير في ذلك، فالله تعالى أمرنا بالنظر والنقد فيما خلّفه الأجداد من تراث ورويات وتأريخ، والجديد فقط الذي لا يبلى، كتاب الله وكفى، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
واليوم للأسف نجد اختراقا في الخطاب الإباضي وتحوله تدريجيا إلى خطاب أهل الحديث، والذوبان في منهجم، والتنكر لمنهج الإباضية الأوائل، وجعله غريبا عن أبناء المذهب، بطريق قد لا يقصدونه، ولكن الانبهار بتراث أهل الحديث دون قواعد واضحة جعلهم يتصورون أنه الحق الحقيق الذي لا بد منه في التحقيق، ومع تراجع مجموعة من أصحاب الحديث ومناداتهم بالعودة إلى القرآن وعدم الانبهار بمنهج المحدثين والتسليم له دون رؤية قرآنية وانطلاق قرآني[19]، إلا أننا نجد من الإباضية اليوم وممن يحمل فكر الإباضية، نجده يستسلم لما يقوله المحدثون، دون إعمال عقلي، ورؤية قرآنية[20].
وأنا هنا كما قلت آنفا لا أعني من كلامي الاستنقاص من منهج أهل الحديث، ولكنه منهج روائي بشري، لا يعلو على منهج القرآن، حيث أنّ العديد من منهج أهل الحديث أطر بعيدا عن القرآن الكريم بصورة واضحة، فنجد الاختراق اليهودي في العقيدة، ودخول عقائد غيبية جديدة لم تذكر في القرآن، والتنظير للظالم، وإلغاء عشرات الآيات بآحاديث آحادية، وانتشار الإرجاء في العالم الإسلامي، وغيرها يطول، لأن منهج التصحيح والتضعيف لم يستطع أن يوجد لنا منهجا واضحا في نقد الخطاب الروائي، والإمام أحمد ت (241 هـ ) أبو الجرح والتعديل ذاته، لم يستطع بهذا المنهج أن يخلص مسنده من عشرات الأحاديث الموضوعة والضعيفة التي أثرت في العالم الإسلامي إلى اليوم.
والإباضية الأوائل لم ينبهروا بعلم الحديث ورجاله لا عن ضعف، ولكن لإدراكم أنّ الرواية الصحيحة بذاتها لا تخرج عن محكم القرآن، فنحن بحاجة إلى النص وتقييمه، وهذا ما قاله ابن تيمية ت (728هـ) مثلا في رفع الملام عن الأئمة الأعلام ونصه: “بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين – أي كتب الصحاح والمسانيد – كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير، لأنّ كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية”[21]، وكلام ابن تيمية الأخير وهو قوله أو لا يبلغنا بالكلية، فإن كانت الروايات تشكل تشريعا ربانيا فهذا يعني أنّ الشريعة ناقصة لأنه لم يبلغنا، والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[22]، وعليه الإسلام أكمله الله بإكمال كتابه، وكلامه يخالف منهج أهل الحديث الذين يستسلمون لتصحيح السند غالبا، فالسند الصحيح ليس دليلا على صحة المتن، والعكس صحيح، ولذا عندما حدّث الحسن البصري ت (110هـ) بحديث، فقال له رجل: يا أبا سعيد، عَمّن؟ فقال: ما تصنع بعَمّن؟ أما أنت فقد نالتك عظته، وقامت عليك حجته[23]، وهذا إذا وافق كليات القرآن، وإلا القرآن في غنى عنه.
وقال ابن مسعود ت (33هـ): كونوا للعلم رعاة، ولا تكونوا له رواة، فقد يرعوي من لا يروي، أو يروي من لا يرعوي[24].
وعليه نجد الإباضية الأوائل يطبّقون قاعدة العرض على القرآن، وهذا ظاهر في الجانب العقدي، وقاعدة العرض على الأثر، أي العلماء الثقات الذين نقلوا الشريعة كابرا عن كابر، فلم تغزوهم حينها نظرية: إذا صح الحديث فهو مذهبي، لأن هذا الحديث ذاته وإن صح سندا، فتبقى صحته ظنية، وما نقله الثقات عمليا، في أمر يعتبر قاعدة في حد ذاته، ومن أمثلة هذا:
- ردّ أبي عبيدة بن أبي كريمة ت (150هـ) شيخ المذهب، لما روي عن ابن عمر ت (73هـ) قوله: “هذا بحر وتحته سبعة أبحر، وتحتها النيران” وعليه استخلص عدم جواز الوضوء من ماء البحر، ردّ هذا أبو عبيدة لأنه يعارض القرآن والأثر، أما معارضته للقرآن فلقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}[25]، وأما معارضته للأثر فما تناقله العلماء عن عمر بن الخطاب ت (23هـ)، وهو أبو عبد الله ناقل الرواية، في قوم أتوا إلى عمر وقالوا له: إنّ أناسا يأتوننا ويزعمون أنّ البحر لا يتوضأ بمائه، ولا يغتسل به من الجنابة، فقال: كذبوا أولئك، أئتوني بماء البحر نتوضأ به ونتطر، هو الطهور ماؤه والحل ميتته[26].
- ردّ الربيع ت (170هـ) وشيخة أبي عبيدة ت (150هـ) لرواية ابن مسعود ت (33هـ) في الرجل إذا توضأ ثم لمس أو قبّل جاريته أو امرأته أنه يعيد الوضوء، لمخالفتها القرآن والأثر، أما القرآن فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}[27]، والملامسة الجماع، وعليه كان الأثر.
- ردّ أبي المؤرج (ق2هـ) وابن عبد العزيز (ق2هـ) لما يرويه الآخرون من أنذ التيمم يعاد لكل صلاة ولو لم ينقضه ما ينقض الوضوء، ردّوا هذا بآية الوضوء، والتيمم له حكم الوضوء[28].
- ردّ أبي المؤرج (ق2هـ) لروايات المسح على الخفين من طريق القرآن والأثر، أما القرآن فلآية الوضوء في المائدة[29]، حيث أشارت إلى غسل الرجلين، ثم قال: ولا نعلم في كتاب الله شيئا نزل نسخه إلا بالقرآن، ولا نعلم رواية نسخت القرآن، إنما ينسخ القرآن القرآن، وكذلك قال الله تعالى في كتابه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[30]، وأما الأثر لمخالفته من روي عن كبار الصحابة كابن عباس ت (68هـ) وعائشة ت (58هـ) وعلي بن أبي طالب ت (40هـ)، وكبار التابعين كجابر بن زيد ت (93هـ)[31].
- ردّ جابر بن زيد ت (93هـ) للقنوت في الصلاة لمخالفته القرآن والعمل أو الأثر، أما من القرآن فقوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}[32]، والصلاة كلها قنوت، وأما الأثر فقوله عن الدعاء بعد الركوع: “هذا أمر محدث، لا نعرفه ولا نأثره عمّن مضى من خيار هذه الأمة”[33].
فهذه نماذج من أقدم مصدر فقهي إباضي في التعامل في زمن قلت فيه الروايات، فلم نجد قدحا في رجال، ولا اهتمام ببشر، بل هي رؤية قرآنية، ونقد للمتن، بل حتى تعاملوا معه عقلا، وسأذكر لكم مثالين في جانب الطهارة والوضوء فقط لضيق المقام:
المثال الأول: تعاملهم مع رواية: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب، وما يماثلها من ألفاظ مع بعض الاختلاف، فسئل أبو عبيدة ت (150هـ): أتوقت في غسله ثلاثا أو سبعا كما قال هؤلاء؟ قال: لا أوقت في ذلك وقتا دون حسن التنقية والغسل، فإن أنقاه في مرة واحدة فليتوضأ به[34].
المثال الثاني: التوقيت في غسل الوضوء ثلاثا ثلاثا، قال أبو عبيدة ت (150هـ): لا أوقت في ذلك وقتا لأنه لم يأتنا أمر يُنتهى إليه دون حسن الغسل والتنقية، إن كان ثلاثا فثلاثا سابغات، وإن كان اثنتين فاثنتين إذا كانتا سابغتين، أو واحدة فواحدة إذا كانت سابغة، كل ذلك يجزيه، ولا يجزيه ثلاثا أو أكثر من ذلك إذا لم يسبغ الوضوء وينقي، وليس في الإقلال والإكثار في ذلك عندنا وقت[35].
فالعرض القرآني والعمل منطلقان بحاجة إلى أبحاث يخرج منها تأصيل واضح، وذلك لأن الدين أمانة، وإضافة نص إليه لا ينبغي التساهل فيه كما أنه لا ينبغي التساهل في إنكاره، وعليه نجد المدارس الثلاث الأولى الإباضية والزيدية والمالكية لهم تركيز جلي على هاتين القاعدتين، إلا أنّ بسبب ظهور منهج أهل الحديث المتأخر على المناهج الأخرى أدى إلى انكماش المناهج الأخرى، وتقليدهم لما قال أهل الحديث.
مجلّة الحياة الجزائريّة
أهم المصادر:
– الأدلة والأصول والقواعد التجديدية في الفقه المالكي، للدكتور محمد بشير سويسي، مدرج ضمن كتاب ندوة تطور الفقه الإسلامي والمستقبل، الأصول المقاصدية وفقه التوقع، 1430هـ/ 2009م، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الدينية/ سلطنة عمان، ط الأولى، 1431هـ/ 2010م.
– الجامع الصحيح للإمام الربيع، تحقيق: سعود بن عبد الله الوهيبي، ط مكتبة مسقط/ سلطنة عمان، ط الأولى: 1415هـ/ 1994م.
– رفع الملام عن الأئمة الأعلام لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ط الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد – الرياض/ السعودية، ط 1403هـ/ 1983م.
– غاية المطلوب في الأثر المنسوب، للشيخ عامر بن خميس المالكي، ط مكتبة الجيل الواعد، مسقط/ سلطنة عمان، ط1/ 1433هـ/ 2012م.
– القمع الفكري بين المدارس الإسلامية … أسباب وآثار. بدر العبري، قيد الطبع.
– مدونة أبي غانم الخرساني، تحقيق يحيى النبهاني وإبراهيم العساكر، ط مكتبة الجيل الواعد، مسقط/ سلطنة عمان، ط الأولى، 1427هـ/ 2006م.
– كتاب هذا حلال وهذا حرام ط دار الفضيلة – مصر/ القاهرة.
[1] النحل/ 44.
[2] الشّيخ الإمام العالم الحافظ الفقيه أبو غانم بشر بن غانم الخراسانيّ، من أهل خراسان، قدِم إلى البصرة لتلقّي العلم لأنّ البصرة في ذلك الوقت كانت قبلة للعلم فهي تزخر بشتّى فنون العلم، وفي شتّى المذاهب الإسلاميّة، قدم لتلقّي العلم على يد علماء الإباضيّة وخاصّة أبي عبيدة، وإن كان لم يدرك من حياته إلاّ قليلاً، إلاّ أنّه أخذ العلم عن تلامذته وعنهم دون كتبه وأهمّها المدوّنة الّتي دوّن فيها أقوال تلاميذ أبي عبيدة ورواياتهم واختلافاتهم، ذكرت المصادر أنّ لأبي غانم كتابين هما: المدوّنة: وهو موضوع البحث، وسأتكلّم عنه بشيءٍ من الاختصار، واختلاف الفتيا أو الفتوى: وهو مفقودٌ لم يعثر عليه، وقد اختلف المؤرّخون في سنة وفاة الإمام عبد الوهّاب، فقيل: عام 188 هـ، وهو قول ابن عذارى المراكشيّ، وقيل: سنة 190 هـ، وهو القول الّذي رجّحه البارونيّ، وتابعه الدّكتور عمرو النّاميّ، وقيل: سنة 208هـ. ينظر مقال: أبو غانم بشر بن غانم الخراسانيّ مؤلف المدونة، بقلم مهنا بن راشد السعدي، منشور في موقع أشعة من الفكر الإباضي.
[3] الأنعام/ 38.
[4] العنكبوت/ 51.
[5] ينظر مثلا في وضع الحديث من أجل الترغيب أو الترهيب أو المواعظ: كتاب هذا حلال وهذا حرامن ط دار الفضيلة – مصر/ القاهرة، ص (13).
القمع الفكري بين المدارس الإسلامية … أسباب وآثار. بدر العبري، قيد الطبع.[6]
[7] الربيع بن حبيب، إمام، داعية، محدث، الإمام الثالث بعد جابر وأبي عبيدة، هو العلامة الربيع بن حبيب بن عمرو الأزدي الفراهيدي العماني، ولد بغضفان إحدى قرى الباطنة حوالي سنة 75هـ، ولم يمكث طويلا في عمان بل انتقل إلى البصرة لطلب العلم، فتتلمذ على الإمام جابر بن زيد، وأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة، وضمام بن السائب، وصالح الدهان، واحتل بعد ذلك مكان الصدارة تدريسا وتأليفا وإفتاء وأسهم في الحركة العلمية بالبصرة، فأشرف على حملة العلم ووجههم إلى عمان واليمن وخراسان، وخلف شيخه أبا عبيدة في تسيير أمور الدعوة، وامتاز في مجال التأليف فكان رائدا في تدوين الحديث والفقه، ومن أهم مؤلفاته: – الجامع الصحيح، مسند الإمام الربيع بن حبيب (عمدة الإباضية في السنة)، وبعد سنوات حافلة بجلائل الأعمال قضاها الربيع إماما ومربيا بالبصرة، وداعيا ومحدثا ومفتيا، عاد إلى عمان ليعيش بها ما تبقى من عمره عفيفا ورعا إلى أن توفي بغضفان مسقط رأسه، توفي سنة 170هـ، انظر: برنامج معجم أعلام الإباضية [قسم المشرق].
[8] ينظر: الجامع الصحيح للإمام الربيع، تحقيق: سعود بن عبد الله الوهيبي، ط مكتبة مسقط/ سلطنة عمان، ط الأولى: 1415هـ/ 1994م، ص: 84.
[12] ينظر: بحث: الأدلة والأصول والقواعد التجديدية في الفقه المالكي، للدكتور محمد بشير سويسي، مدرج ضمن كتاب ندوة تطور الفقه الإسلامي والمستقبل، الأصول المقاصدية وفقه التوقع، 1430هـ/ 2009م، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الدينية/ سلطنة عمان، ط الأولى، 1431هـ/ 2010م، ص 268- 276.
[13] الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير، شرح أحمد شاكر، ط دار التراث، ط3/ 1979م، ص: 36 – 37.
[14] مدونة أبي غانم الخرساني، تحقيق يحيى النبهاني وإبراهيم العساكر، ط مكتبة الجيل الواعد، مسقط/ سلطنة عمان، ط الأولى، 1427هـ/ 2006م.
[16] وهذه بحاجة إلى دراسة استقرائية لكتب ومخطوطات القرن الثاني والثالث الهجري، وما ذكرته كان استنتاجا أوليا لا غير، فلينظر فيه ولا يؤخذ إلا بعدله.
[17] ولنا بحث في هذا سميناه: عرض آراء الإمام الجويني من خلال كتاب اللمع على القرآن الكريم، مقارنة بالمذاهب الإسلامية، مخطوط.
[18] ينظر مثلا: غاية المطلوب في الأثر المنسوب، للشيخ عامر بن خميس المالكي، ط مكتبة الجيل الواعد، مسقط/ سلطنة عمان، ط1/ 1433هـ/ 2012م.
[19] ينظر مثلا مؤلفات حسن فرحان ورؤاه النقدية، وكتابي السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث وهموم داعية لمحمد الغزالي، وأضواء على السنة النبوية لمحمود أبو رية، ومؤلفات أحمد الكاتب ونقده الفكر الشيعي، وكذا استفتاءات حسين المؤيد.
[20] ينظر مثلا: كتاب الأجوبة المسكتة لأبي الطيب الطيواني.
[21] رفع الملام عن الأئمة الأعلام لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ط الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد – الرياض/ السعودية، ط 1403هـ/ 1983م، ص18.
[22] المائدة/ 3.
[23] غاية المطلوب في الأثر المنسوب، مصدر سابق، ص192.
[24] المصدر نفسه، ص 192.
[25] الفرقان/ 53.
[26] المدونة لأبي غانم الخراساني، ص 50 – 51.
[27] المائدة/ 43.
[28] المدونة/ 58.
[29] المائدة/ 6.
[30] البقرة/ 106.
[31] المدونة: 63 – 64.
[32] الزمر/ 9.
[33] المدونة: 84.
[34] المدونة: 48 – 49.
[35] المدونة: 48.