التّسول مأخوذ من فلان تسوَّل أيّ شحذ، وسألَ واسْتَعْطى، وطلب العطيَّةَ والإحسانَ، فالتّسول من الطّلب بدون جهد، وسماه القرآن بالسّائل في قوله تعالى: وأمّا السّائل فلا تنهر.
وظاهرة التّسول ظاهرة قديمة قدم الإنسان، وتزيد ظهورا في المدن الكبيرة، كما أنّها علامة في زيادتها على تدني الوضع المعيشي، ووجود خلل في التّوازن والعدالة الماليّة والاقتصاديّة، وأيضا أنّ الظّاهرة تزيد مع اندلاع الحروب، وكثرة اللّاجئين والنّازحين من ويلات الحروب.
والتّسول صورته البسيطة في طلب المال مباشرة في الشّوارع والتّجمعات السّكنيّة والمساجد والأسواق، وله صور أكثر تعقيدا خاصة مع وسائل التّواصل المعاصرة، كإنشاء شركات وهميّة، والابتزاز الالكترونيّ، واستغلال القصر والنّساء في جمع المال، وقطع بعض أجزاء الجم أو تشويهه للجذب العاطفي، وكذا استغلال الأعراض في جلب المال.
هذه المقدمة مهمة جدا لنفهم التّسول من حيث ماهيته وصوره قبل الحديث عن النّظرة الشّرعيّة.
والسّؤال هنا: أين نضع التّسول في القرآن الكريم؟
التّسول في القرآن يحمل خطين، الخط الأول خط بسيط اضطراريّ يقع فيه الإنسان في مجتمع يغيب فيه التّنظيم للإنفاق حتى صار المال دولة بين الأغنياء، وهذا ما يفهم من قوله سبحانه: وأمّا السّائل فلا تنهر، وقوله: وَالَّذِينَ فِىۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ.
أمّا الخط الثّانيّ فهو خط الاستغلال وأكل أموال النّاس بالباطل، وهذا يفهم من قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال النّاس بالإثم وأنتم تعلمون.
ومن إدراك هذين الخطين ندرك أين نضع قضية التّسول، حيث نضعها في مكانها الصّحيح دون ظلم لفرد ولا جماعة.
وعليه العلاج يكمن في ثلاثة ذوات: ذاتيّة المال نفسه، وذاتيّة الفرد، وذاتيّة المجموع.
أولا: ذاتيّة المال.
المال في الشّرائع السّماوية جانب مقدّس، وهو ما يعبّر عنه بعض الفقهاء بالعصمة، أي أنّ المال معصوم لا يؤخذ بغير حق، وجعله الفقهاء أيضا من ضمن الضّروريّات الخمس في الحياة وهي النّفس والدّين والعرض والنّسل والمال.
وبين القرآن الكريم أنّ الإنسان جبل على حب المال: وَتُحِبُّونَ الْمَال حُبًّا جَمًّا، وقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.
والله تعالى أمر الإنسان بالسّير في الأرض لطلب المال، وحث على التّجارة والزّراعة واستغلال الأرض، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
فالمال قيل غريزة مكتسبة في الإنسان، وبعض الفلاسفة يرى أنّها غريزة ذاتيّة، والحاصل أنّ المال وإن كان في نظر الشّرع لا يقتصر على النّقود، فكلّ ما يملكه الإنسان من زروع وعقارات وغيرها يعتبر مالا، هذا المال جانب مقدّس، له جانب العصمة المطلقة، يؤخذ بحقة، ويوضع في محله.
ثانيا: ذاتيّة الفرد.
كذلك أعطى الله تعالى الحريّة الكاملة للإنسان، بما وهبه الله من عقل وإرادة وحواس، فاعتبر ما اكتسبه الإنسان بأيّ كسب مباح له حق الملكيّة الكاملة، سواء كان ذكرا أم أنثى، صغيرا أم كبيرا، مؤمنا أم كافرا، حيث قال: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.
ولا يسقط هذا الحق بأيّ شكل من الأشكال، إلا إذا أخرجه بنفسه بيعا أو هبة أو وقفا أو وصية وتركة، بل إذا كان الإنسان سفيها لا يحسن التّصرف في ماله فيصح مسك ماله حتى يعقل ويعرف كيف يتصرف، كأن يكون قاصرا، أو بالغا غير راشد، أو به خفة من عقل، أو كان نتيجة تأثير مرض أو كبر، يقول تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا.
والحديث عن ماليّة الفرد بطبيعة الحال يطول، إلا أنّه يهمنا في هذا اللّقاء أمران: عصمة ماله، وحريته في الكسب الحلال وأن يضعه في الموضع الحلال، فلا يأخذ المال بغير حق، ولا يضعه فيما لا يصح شرعا ولا قانونا، وفي الوقت نفسه لا يجوز أن يؤخذ منه المال بغير حق، ولا أن يحجر عنه بغير عدل، إلا ما وجب عليه شرعا، أو ما أقره النّاس فيما زاد عن حق الصّدقة بلا بخس ولا ظلم.
ثالثا: ذاتيّة الجماعة.
الأصل في ذاتيّة الجماعة قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال النّاس بالإثم وأنتم تعلمون، وقوله تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
فالجماعة وضعت لتحفظ النّاس وأموالهم، وترجع حقوقهم المغتصبة، وأموالهم المسروقة، وتوفر الأعمال، وتقضي على البطالة، وتحاسب الكسالى، وتوفر الأمن الماليّ والأمن المعيشيّ، وغيرها من الجوانب المرتبطة بطبيعة الحال.
الذّوات الثّلاث والتّسول:
بعد ما تطرقنا إلى الذّوات الثّلاث نستطيع أن نضع المكان السّليم للمتسول كفرد أو كشركات وهميّة، والأصل أنّ التّسول لا يجوز شرعا ولا قانونا، ولكن ينبغي أن ننظر إلى التسول كعلاج قبل النّظر إليه كجرم، ونشير هنا إلى أهم الحالات.
الحالة الأولى: حالة الإنسان المقتدر القادر على الكسب، العاقل البالغ، فهذا لا يجوز له بحال التّسول، ما دامت الطّرق متاحة، والسّبل مفتوحة.
إلا أنّه يستثنى في حالات ضروريّة كما في الرّواية عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يا قبيصة، إنّ المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثمّ يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً مـن عيش أو قال سداداً من عيش، فما سواهنّ في المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً.
الحالة الثّانيّة: المشردون في الأرض بسبب الحروب أو النّوازل والجوائح، وخاصة النّساء والأطفال فهذه تقدّر بقدرها.
الحالة الثّالثة: استغلال حاجة الفقير والنّساء والأطفال في جماعات أو شركات وهميّة، فهذه إعانتها جرم لا يجوز، واستغلال الضّعفاء وذوي الحاجة يزيدها جرما.
التّسول ومؤسسات العمل المدني:
مع الإشارة إلى الحالات الثّلاث المتقدمة إلا أنّ العلاج يكمن بداية في وجود مؤسسات عمل مدني تكون منظمة وراعية من خلال الجوانب التّاليّة:
أولا: هذه المؤسسات لها الأحقيّة القانونيّة في جمع المال من المصادر الشّرعيّة والمجتمعيّة، أو من الصّدقات، أو من استثماراتها الخاصة، وتكون تحت ظلّ الرّقابة والمسائلة القانونيّة.
ثانيا: أن يكون لها القدرة والحريّة القانونيّة في الحصر ومعرفة الأسر والأشخاص، وتتبع أحوالهم المعيشيّة وحصرها.
ثالثا: أن يكون لها فروعها في المدن والقرى، وحضورها في الشّدة والرّخاء.
وبعد هذا التّنظيم المدنيّ يسهل على النّاس في معرفة الصّادق من الكاذب، وأيضا يطمئن النّاس عندما يتصدقون بأموالهم أنّها تصل الطّريق السّليم، وتوضع في المكان المناسب، وفي الوقت نفسه لا يشعرون بتأنيب الضّمير.
ثمّ أيضا بالعمل المدنيّ الواحد يتحقق التّكافل الحقيقيّ، وسبل الإغاثة الصّادقة، وتعالج العديد من القضايا بشفافيّة تامّة.
ثمّ بعد هذا يأتي الرّدع والعقاب، ولكن لا يجوز قبل تحقيق العدل المعيشيّ، ثم توفير مؤسسات التّكافل المدنيّة، وبعدها يأتي دوره، لا أن يحرم النّاس، ويغلق عليهم، فيتجهون إلى جرائم أكبر وعلى رأسها السّطو والسّرقة والقتل لأجل المال، والله المستعان.
جريدة عمان 1436هـ/ 2017م